قام الباحث الفرنسي Yvon le Maho، مدير الأبحاث بالمركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي (CNRS)، بدراسة سلوك ذكور البطاريق وتعاملها مع الصوم، والذي أشرنا إليه في المقال السابق.. وجد أن ذكور البطاريق تلك تبقى في حماية بيضها لمدة ثلاثة أشهر دون أن تأكل أي شيء، بينما تذهب الأنثى في البحث عن الأكل.. تمر أجسامهم في تلك الفترة على المراحل المتتابعة للصوم، والتي أتينا على ذكرها في المرة السابقة.. ثم يعود الذكر بعد تلك المدة (وقد بلغ المرحلة الأخيرة من الصوم) مسرعا إلى الماء باحثا عن الطعام حتى لا يصل لمرحلة الموت.. وقد لوحظ عند كثير من الطيور المهاجرة خوضها لأيام طويلة من الصوم..
سنة 2012 قام الباحث الإيطالي الأمريكي Valter Longo (1)، البيولوجي المتخصص في علم الشيخوخة (La Gérontologie) بتجربة مثيرة على الفئران (2).. قام Valter بتقسيم الفئران لمجموعتين، أخضع مجموعة منهما إلى صوم لمدة يومين، بينما سمح للمجموعة الأخرى بالتغذي بشكل طبيعي.. قام الباحث بحقن المجموعتين بتركيزات عالية قاتلة من أدوية العلاج الكيميائي (من 3 إلى 5 أضعاف التركيز المستعمل عند الإنسان).. بعد مدة من المتابعة، ماتت كل الفئران التي لم تخضع للصوم، بينما بقيت الفئران التي صامت على قيد الحياة.. يذكر الباحث أنه تم إعادة التجربة في مركزين مختلفين، وكانت النتائج متطابقة.. اقترح حينها كتفسير للأمر، أن الخلايا الطبيعية تتعامل مع حالات الصوم بشكل طبيعي، وتُفعِّل ميكانيزماتها الخاصة ما يجعلها أقوى في مواجهة العلاج الكيميائي (وبالتالي آثار جانبية أقل)، وبالمقابل فإن الخلايا السرطانية الفاقدة للذاكرة الجينية الطبيعية فإن تفشل في مواجهة حالات الصوم، وتصبح في حالة من الاستثارة، ما يجعلها فريسة سهلة للعلاج الكيميائي (وبالتالي فاعلية العلاج أكبر)..
كانت هذه النتائج مذهلة جدا للباحثين في المجال الطبي.. وبقي السؤال المطروح بعد هذا، هل يمكن أن يكون للصوم تأثيرا إيجابيا على الجنس البشري؟
عبر السنين الطويلة تعرّض الجنس البشري لمجاعات متتالية جعلت خلاياه تطور ميكانيزماتها الخاصة لمواجهة نقص الغذاء والبقاء أطول فترة ممكنة.. ومنذ القديم كان الناس يصومون لغايات روحية ودينية (رمضان، ومناسبات الصوم عند اليهود والنصارى مثلا)، ولغايات احتجاجية أيضا، كفترات الإضراب عن الطعام من أجل المطالبة بالحقوق (مثل الإضراب الذي قام به الإيرلندي بوبي ساندز والذي أدى إلى وفاته، ووفاة تسعة من زملائه من بعده).. لكن الحديث عن الصوم لأهداف وقائية أو علاجية من أمراض ما فلم يظهر إلا في النصف الثاني من القرن العشرين أغلب الظن.. في روسيا، وخلال سنوات 1950، ولمدة ما يقارب الأربعين سنة، اهتم مجموعة من العلماء الروس بالصوم وبدراسة تأثيراته على جسم الإنسان. عملهم في ظل الاتحاد السوفيتي، وبقاء دراساتهم باللغة الروسية دون ترجمة، جعل العالم بعيدا عنها وعن نتائجها.. وفي ألمانيا، تقوم عيادة Buchinger Wilhelmi، التي تحمل اسم مؤسسها، واسم طريقة الصوم الخاصة بها (الصوم على طريقة Buchinger)، تقوم بتطبيق الصوم العلاجي على أكثر من ألفي شخص سنويا منذ حوالي أربعين عاما (6)..
الصوم هو الاستغناء عن الأكل والشرب بشكل كامل، باستثناء الماء، لمدة قصيرة (بضع ساعات) أو طويلة لأيام أو أسابيع.. في 16 ساعة الأولى (ما يعادل صوم يوم في رمضان) يعتمد الجسم أساسا على السكريات المؤخوذة من آخر وجبة تم تناولها.. ثم ينتقل للمرحلة الموالية ليعتمد على مخزون السكريات الموجود في الكبد أساسا، ثم يعتمد إنتاج سكريات جديدة انطلاقا من البروتينات (أين يتم فقد كتلة مهمة من العضلات)، ثم يتحول إلى مرحلة توفير البروتينات والحفاظ عليها والاعتماد على الدهون (الأحماض الدسمة بشكل أكثر تحديدا) كمصدر للطاقة (وقد خصصت المقال السابق بالكامل لشرح هذه المراحل).. يمر الصائمون عادة بين اليوم 3 و4 بما يسمى بـ Crise d’acidose، حالة يشعرون فيها بالإرهاق والتعب وبعض الآلام كآلام الرأس، ثم تختفي تلك الأعراض شيئا فشيئا مع مرور الأيام (6)..
بالحديث عن الصوم العلاجي، لا وجود لطريقة واحدة متفق عليها، فهناك طرق كثيرة جدا، فهناك الصوم الكامل باستثناء شرب الماء ويسمى ب le jeûne hydrique، وهناك الصوم بسعرات حرارية تعادل 250 كيلوكالوري يوميا (بينما الحاجة اليومية الطبيعية تكون في حدود 2000 كيلو كالوري) يأخذها الصائم على شكل حساء أو عصائر الفواكه (وهذا هو الصوم على طريقة Buchinger)، وهناك الصوم المستمر، أو المتقطع (يوم أو يومين في الأسبوع مثلا)، وهناك من يقترح أن يكون الصوم مرفوقا بنشاط رياضي وهناك من لايفعل.. تنتشر عيادات العلاج بالصوم بشكل خاص في كل من روسيا وألمانيا..
تزايد في السنوات الأخيرة في العالم الحديث عن الصوم العلاجي شيئا فشيئا، وشرع العديد من الناس في تجربته بهدف الوقاية أو العلاج من مرض ما، في المراكز المتخصصة لذلك (خصوصا في ألمانيا وروسيا كما أشرت)، أو بشكل فردي دون أي متابعة طبية.. تبدو أن القابلية الواسعة لمفهوم كمفهوم “الصوم العلاجي” كان بسبب عوامل عديدة، أهمها: أنه أتى في مجتمع وفرة الغذاء الزائدة عن الحاجة، وأن العديد من محاولات إعادة النظر لغذائنا ومدى كونه “صحيا” قد لاقت رواجا كبيرا، إضافة لظهور الأغذية المحولة جينيا وارتفاع خوف الناس منها، وربما أيضا بسبب تناول الإعلام للصوم العلاجي وتحويله لقضية إعلامية (Médiatisation)، والانتشار الواسع لقصص الناس الذين خاضوا تجربة الصوم عبر المنتديات ومواقع التواصل الاجتماعي كان له تأثير في هذا، ما جعلنا نتحول من منهج “الطب القائم على الأدلة” إلى منهج الأدلة القائمة على تجارب شخصية كما أشار البروفيسور في التغذية Christophe Moinard إلى ذلك في مقاله “الصوم: الخرافات والحقائق” (5)..
في سنة 2013 نشر المعهد الوطني للصحة والبحوث الطبية الفرنسي (Inserm) مراجعة عامة للأدبيات العلمية منذ سنة 1990 إلى تاريخ المراجعة (4)، حول الدراسات والمراجعات الطبية بخصوص الصوم الوقائي أو العلاجي.. ذُكر في الاستنتاج النهائي أن هنالك تغييرات تحدث على مستوى الجسم في فترة الصيام، لكن لا وجود لدراسات عيادية قوية (على الإنسان) ذات أساس علمي صحيح، لذا تبقى كل تلك الآثار الإيجابية للصوم في خانة النظريات..
يعتقد من يؤمن بفائدة الصوم أن هناك مؤامرة عالمية من شركات الإنتاج الصيدلانية والغذائية تقف حاجزا أمام إجراء وتمويل تجارب عيادية كبيرة بخصوص موضوع الصيام لأن ذلك لا يخدم مصالحها العامة.. ومع ذلك فإن دراسة الآثار الإيجابية للصوم لها عوائق منهجية تجعل الدراسات المهتمة بشأنه أقل متانة في نظر المنهج العلمي.. ومن تلك العوائق على سبيل المثال هو غياب العشوائية (Randomisation) أي أن تقسيم المشاركين في الدراسة إلى مجموعتين، مجموعة تخضع للعلاج، وتكون الأخرى كشاهد، أمر صعب في هذه الحالة، ففي أغلب الحالات يكون خوض الصوم لأيام طويلة قرارا شخصيا، ومن غير المعقول للكثير أن يخوضوا تجربة الصوم اعتمادا على قرعة، فينتهي الأمر بأشخاص يصومون دون رغبة، أو يكونون في مجموعة الشاهد وهم راغبون في الصيام، فتحدث حالات الانسحاب من تلك التجارب.. والمثال الآخر هو غياب ما يسمى بـ Double Aveugle، فالدراسات العلمية تقضي جهل من يخضع للدراسة ومن يراقب التغيرات الحاصلة على الخاضعين للدراسة (من الإطار الطبي) بما إذا كان الشخص المعين يتناول الدواء الحقيقي، أو الوهمي Placebo (أو الدواء أ أو ب في دراسات المقارنة بين الأدوية)، لكن في حالتنا هذه لا يمكن أن يطبق هذا الشرط، لذا قد تتدخل عوامل نفسية عديدة تساهم في تحييز وتغيير العوامل التي تتم مراقبتها ومتابعتها.. وأخيرا فإن تعدد أنواع الصوم يجعل عملية تعميم نتائج دراسة ما على نوع من أنواع الصوم على كل الأنواع الأخرى أمرا صعبا (9)..
في بداية عام 2019 نشر المركز الألماني للعلاج بالصوم Buchinger Wilhelmi ما أسماها أكبر دراسة للصوم بطريقة بوشينغر (7)،حيث تم مراقبة 1422 شخصا قاموا بتجربة الصوم في مدد تتراوح بين 4 إلى 21 يوما.. ذُكِر في استنتاجها أن الصيام الدوري أدى فقدان ملحوظ للوزن، مع تحسن في العوامل التي تشكل خطرا على القلب والأوعية الدموية (مثل السمنة، وضغط الدم..) رافق ذلك عودة نسب خلايا الدم إلى القيم الصحية، وأدى الأمر إلى تحسن في الصحة العامة لأغلبية المشاركين.. وأشاروا في الأخير إلى وجوب القيام بدراسات أخرى تقيس الآثار الوقائية والعلاجية للصوم طويل الأمد (أكثر من 21 يوما)..
أخيرا.. غياب الدليل على فعالية الصوم ليس دليلا على عدم فعاليته بالطبع.. ومع ذلك فإن المجتمع الطبي الرسمي قد لا يبدأ في وصف الصوم كعلاج قريبا، في انتظار دراسات على عدد مشاركين أكبر، تخضع لشروط الدراسات العلمية الموثوقة بشكل أكبر في المستقبل.. ومع هذا أيضا فإن خوض تجربة الصوم لشخص يبدو في صحة كاملة، لمدة في حدود الأسبوع، تحت مراقبة طبية كاملة، قد لا يبدو خطيرا، مع الإشارة للمضاعفات الخطيرة التي قد تظهر عند بعض الأشخاص.. لكن هنالك حالات تبدو خطورة خوض تجربة الصوم بالنسبة لها أكثر وضوحا، كالمرأة الحامل أو المرضعة، ويكون المتضرر الأول هو رضيعها بسبب انخفاض بعض المواد الأساسية التي يحتاجها. أو الطفل أو المراهق في مرحلة النمو ما يسبب اختلالا في النمو. أو بالنسبة لكبار السن ويكون الخطر الأساسي هو اضطرابات القلب (8)..
المصادر:
1/ الموقع الرسمي للباحث Valter Long
3/ مقال بعنوان: Manger moins pour vivre mieux لـ Christophe ANDRÉ
4/ مراجعة المعهد الفرنسي للصحة والبحوث الطبية INSERM
5/ مقال “الصوم: خرافات وحقائق” (le jeûne : mythes et réalités)
6/ وثائقي قناة Arte.. بعنوان Le jeûne, une nouvelle thérapie ?
8/ Jeûner est-il vraiment bon pour la santé ?
9/ Diapo.. Y a-t-il des effets bénéfiques à faire un jeûne?
Christian Mottet, MD PhD
Sophie Sierro, PhD
10/ L’appellation ”jeûne thérapeutique” est-elle fondée ou usurpée?. Jérôme Lemar.