في مارس 1981 بإيرلندا الشمالية، كانت قد انطلقت الموجة الثانية من الإضراب عن الطعام الذي قام به المعتقلون من طرف الحكومة البريطانية في السجون الإيرلندية، بعد سنوات من الاحتجاج امتدت لخمس أعوام قبل ذلك التاريخ، كانت مطالبهم تتمثل في طلب اعتبارهم سجناء سياسيين ومعاملتهم بكل ما يقضي ذلك (ارتداء لباسهم العادي وعدم القيام بالأعمال الشاقة).. كانت تعيش البلاد في تلك الأثناء حربا أهلية، بين مؤيدين لانضمام إيرلندا للمملكة المتحدة وبين معارضين لذلك.. داخل سجن “ميز”، انطلق “بوبي ساندز” بتاريخ 1 مارس في إضرابه عن الطعام، كأول مضرب، ليتبعه آخرون بعد ذلك في فترات متقاربة.. أثناء تلك الفترة، وهو داخل السجن، جرت إنتخابات لتمثيل إحدى الدوائر الإيرلندية في مجلس العموم البريطاني، شارك فيها “بوبي ساندز” من داخل السجن، وهو ما يزال في فترة إضرابه عن الطعام، وكسب المعركة، فأصبح نائبا في مجلس العموم البريطاني من داخل السجن في حالة إضراب عن الطعام.. لفت هذا الأمر الصحافة والرأي العالمي.. واصل في إضرابه رغم ذلك.. وفي الخامس من ماي وبعد 66 يوما من الإضراب توفي ساندز.. حضر جنازته ما يقارب 100.000 شخص.. وانطلقت إثر ذلك أعمال شغب في إرلندا الشمالية.. وبنهاية 1981 بلغ عدد الوفيات بين المضربين إلى 10 معتقلين.. كان أمرا مأساويا بحق..

وبغض النظر عن القضية التي كانوا يناضلون من أجلها، كانت فترة 66 يوما كمدة إضراب عن الطعام إحدى أطول فترات الإضراب في التاريخ.. وقد يكون أول سؤال يتبادر إلى الذهن بخصوص هذا، كيف تمكن جسم ساندز من العيش كل تلك المدة بلا طعام؟ كيف تتعامل أجسامنا أساسا مع حالات غياب الطعام ومصادر الطاقة الخارجية لفترات طويلة؟ ما هي مصادر الطاقة الداخلية التي تعتمد عليها أجسادنا، وكيف تتعامل معها؟ وهل نمتلك مخازن في داخلنا قد ترافقنا لأيام عديدة دون غذاء ولا طعام؟ وهل هناك مراحل ما تمر عليها أجسادنا في حالة الصيام قبل أن نصل للمرحلة القصوى وهي مرحلة الموت؟.. دعنا نتفق أولا أن البقاء بدون ماء لثلاثة أيام إلى أربعة يعني الموت المحتم.. لذا فيمكننا إزاحته عن الإعتبار منذ البداية، والتسليم أنه لا بقاء بدون ماء..
في الحقيقة سؤال الصوم عن الطعام وتعامل الجسم معه سؤال طالما طرحه الكثير من الباحثين العلميين وكان هدفا لدراسات كثيرة.. لم يكن الهدف منها نظريا فحسب، بل كان من أجل فهم أحسن لمضاعفات نقص التغذية المتعلق بأمراض عديدة من جهة، ولفهم تكيف الجينات وتغيرها بسبب فترات المجاعة التي قد تمر ببعض الشعوب على مر الزمن.. التجارب المتعلقة بالصوم على الإنسان ليست كثيرة لصعوبة تحقيقها من جوانب عديدة (الجانب الأخلاقي بالخصوص) خاصة عند الأشخاص الأصحاء.. مع الإشارة لوجود تجارب على أشخاص يعانون السمنة، وكان لخوضهم تجربة الصوم هدفا علاجيا بالأساس.. وتجارب عديدة أخرى على الحيوانات، خصوصا “البطريق الإمبراطوري” (Manchot empereur) الذي يتميز في عالم الطيور بخوضه لصوم يمتد لأشهر (ذكر البطريق في انتظار عودة أنثاه) وهو يحافظ على بيض فراخه في دفئ حماية لها من برد القطب الجنوبي.. وفئران زوكر السمينة من جهة أخرى (Rat Zucker) التي تقوم المختبرات بتربيتها أساسا لإجراء الدراسات المتعلقة بالسمنة وارتفاع ضغط الدم عليها..


– ما الذي يشكل احتياطات أجسامنا (les réserves) من الطاقة؟ البروتينات، الدسم أم السكريات؟
قد يكون هذا أول سؤال تجب الإجابة عنه قبل أي شيء آخر.. نعلم أساسا أن كل ما نتناوله من الأغذية يؤول أساسا إلى ثلاث أنواع من المغذيات؛ السكريات، البروتينات والدسم.. ولأن أجسادنا تعيش في حاجة متواصلة للطاقة بموارد متقطعة تتمثل في الوجبات الغذائية التي نتناولها، كان يجب عليها أن تعتمد طريقة تخزين للطاقة تضمن لها توفرها الدائم المستمر في الفترات بين الوجبات.. تشكل الدسم المخزون الأساسي الأكبر والأهم للطاقة في أجسامنا، حيث بإمكانها تغطية احتياجات شخص متوسط الوزن بالطاقة لمدة حوالي شهرين.. لكن السكريات (أو النشويات) هي المادة الأساسية التي يستخدمها ويفضلها الجسم لتوفير الطاقة لمختلف عمليات ووظائف الخلايا المختلفة.. نرى هنا أن السكر هي المادة المفضلة لإمداد الخلايا بالطاقة، لكن الدسم هي المادة المفضلة للجسد لتخزين الطاقة وتوفيرها لأوقات الحاجة، يمكن تفسير الأمر بسهولة بأن كمية أقل من الدسم (مقارنة بالسكريات) تحمل طاقة أكبر، وبأن الدسم كارهة للماء، فهي لا تحتوي على أي نسبة من الماء، مقارنة بالسكريات التي تتميز بخاصية جذب الماء (ما يجعلها أثقل).. كل هذا يجعل الشكل الأنسب والمفضل للجسد للتخزين هو الدسم، وزن أقل ومخزون طاقة أكبر.. أخيرا، فإن البروتينات لا تشكل مخزونا حقيقيا، لأن كل البروتينات الموجودة في الجسم تمتلك وظيفة من الوظائف داخل الجسم.. يمكنها مساعدة الجسم بتوفير الطاقة في أوقات الحاجة، لكنها في الحالات العادية تؤدي دورا ما، على شكل نواقل أو هرمونات أو بروتينات مشكلة للعضلات تساهم في حركة الجسم وتنقله..
– ما هي المراحل التي يمر عليها جسم الشخص الصائم؟
يمكننا اعتبار أن طريقة تعامل الجسم مع الصوم يمر بثلاثة مراحل..
المرحلة الأولى:
يمكن تسميتها بمرحلة الصوم القصير.. وقد تمتد من يوم واحد إلى خمسة أيام.. يمكننا تلخيص هدف الجسم في هذه المرحلة في “إنتاج المزيد من الغلوكوز من أجل المخ أساسا” (الغلوكوز هي الوحدة المبسطة للسكريات).. ويتم إنتاج هذا الغلوكوز بتحويل البروتينات والدسم إلى سكريات وهذا من أجل تحقيق احتياجات المخ بشكل أساسي من الطاقة.. تسمى عملية إنتاج الغلوكوز انطلاقا من مواد غير سكرية بـ Néoglucogénèse (بمعنى استحداث السكر).. في هذه المرحلة تصبح العضلات منتجا مهما للبروتينات، حتى تنتقل هذه الأخيرة (البروتينات) إلى الكبد والكلى، ليتم تحويلها هناك إلى سكريات.. لكن هذه المرحلة لا تدوم طويلا في الحقيقة، فهي مجرد تأقلم وتكيف سريع مع الصوم، لكنه لا يمكن أن يتواصل نظرا للضياع الكبير في البروتينات المشكِّلة للعضلات.. وإذا تواصل الأمر بهذا الشكل فيعني موتا محتّما في غضون أيام..

المرحلة الثانية:
تبدأ في اليوم الخامس أو السابع، ويمكن أن تمتد لأسابيع طويلة بعد ذلك.. في هذه المرحلة يتغير هدف الجسم شيئا فشيئا من مجرد إنتاج الغلوكوز، إلى “استخدام مخزون الطاقة مع الحفاظ على العضلات لأطول وقت ممكن”.. هنا يتناقص ضياع البروتينات من العضلات شيئا فشيئا، وتظهر في الجسم مركبات جديدة تسمى “الأجسام الكيتونية” ( les corps cétoniques) يتحول اعتماد المخ وكل خلايا الجسم عليها شيئا فشيئا.. ينتج الكبد هذه الأجسام من الدسم (المخزون الأكبر للجسم).. فالدسم تتحول إلى أجسام كيتونية على مستوى الكبد، ثم تنتقل عبر الدم نحو مختلف الأعضاء، وبالأخص المخ، لتستعمل كمصادر طاقة لها خلال هذه المرحلة.. فيمكن أن نعتبر هذه المرحلة مرحلة توفير وحفاظ على البروتينات، حيث تبقى آلياتها أمرا غامضا، ومحلا لنظريات مختلفة.. ما يميز هذه المرحلة ويظهر خارجا هي تلك الرائحة الكريهة التي ترافق الهواء المستخرج من الرئتين، ومصدرها تلك الأجسام الكيتونية المتخلص عنها عن طريق الرئتين..

المرحلة الثالثة:
ولأنها مرحلة متقدمة جدا، فهي لم تدرس إلا عند الحيوانات.. تتميز أساسا باختفاء الأجسام الكيتونية شيئا فشيئا، وظهور الغلوكوز وارتفاع استعمال بروتينات العضلات شيئا فشيئا.. أشبه ما يكون بالمرحلة الأولى.. قد يكون أنسب تفسير لها عند البطاريق هي حاجتها للحركة والتنقل مجددا بعد عودة الأنثى.. وهذه الحالة أنسب لتمده بالطاقة اللازمة للتنقل والغوص مرة أخرى..
وعلى الأرجح، وحسب التجارب المقامة على الحيوانات السمينة، فإن من يعاني من السمنة قد يصل لمرحلة تكون فيها الخسارة البروتينية قاتلة حتى قبل أن يتخلص من كل الدسم الذي يخزنه في جسمه.. على عكس الأشخاص النحيفين الذين قد تكون نسبة الدسم القليلة في جسمهم عائقا لهم على صوم مدة أطول..
هذه هي مراحل تأقلم أجسادنا مع الصوم وتوقف الإمداد الخارجي لها من الطاقة.. قد يتبادر إلى ذهنك سؤال الآن، هل يمكن أن يكون الصوم علاجا بشكل من الأشكال؟.. هذا ما سأتحدث عنه في المقال القادم بإذن الله..
تهمني جدا تعقيباتكم وآراؤكم وأسئلتكم حول الموضوع..
وحول سهولة ووضوح اللغة وطريقة الشرح المستعملة..
رمضان مبارك.. تقبل الله منا ومنكم..
المصادر:
1/ https://www.bobbysandstrust.com/
2/ https://fr.m.wikipedia.org/wiki/Manchot_empereur
3/ https://abdelmadjidchikhbaelhadj.files.wordpress.com/2019/05/physiologie-du-jene.pdf
شرح مبسط وواضح جدا، مشكورون
فقط سؤال لو سمحتم : ذكرتم أنو في المرحلة الثانية من الصوم ( التي تبدأ من 5 آو 7 أيام وتمتد لأسابيع بعد ذلك) تركب الأجسام الكيتونية ويعتمد الجسم عليها، و إثر استهلاكها تكون فيه رائحة كريهة مقرونة بالهواء الخارج من الرئتين ، لكن نلاحظ أن تلك الرائحة تكون ولو كان الصيام لساعات فقط ( لم يتجاوز حتى 24 سا)، فما تفسير ذلك؟؟
إعجابLiked by 1 person
سؤال مهم جدا..
الرائحة الكريهة التي تكون بسبب صوم يوم واحد تختلف عن الرائحة التي تكون بسبب تخلص الجسم من الأجسام الكيتونية عبر الهواء الخارج من الرئتين..
تلك الرائحة التي نلاحظها في آخر اليوم تكون بسبب جفاف الفم (xérostomie).. فعدم تناول الطعام لمدة طويلة يجعل إفراز الريق ينقص لأدنى حدوده.. عدم إفراز الريق يجعل البكتيريا التي تعيش طبيعيا في الفم تتكاثر أكثر فأكثر، لذا فهي السبب الأساسي لتلك الرائحة الكريهة بعد الصوم القصير لأقل من يوم..
ونلاحظ أن هذه الرائحة تزول بمجرد تبليل الفم مرة أخرى.. على خلاف رائحة الأجسام الكيتونية التي لا تزول بهذا، لأنها تكون مقرونة بالهواء الخارج من الرئتين..
في الحالة المذكورة في المقال تكون الرائحة في الهواء ذاته الخارج من الرئتين، أما في حالة صوم يوم واحد، تكون الرائحة في الفم والأسنان واللسان قبل أن يدفع بها الهواء الخارج من الرئتين (الذي يكون بدون رائحة في الأصل) نحو الخارج..
أرجو أن المعلومة وصلت..
شكرا على اهتمامك ♥️🌹
إعجابLiked by 1 person
نعم وصلت، شكرا جزيلا
إعجابLiked by 1 person