تزيّنت أجواء المدينة قبل ذلك بأيّام.. الشجيرات، والأرصفة، وأضواء المدينة، والطرق، والجدران المصبوغة، كانت شاهدة على ذلك.. عَمَّ نفوسَ القومِ ترقّبٌ لقدوم اليوم الموعود.. كنت صغيرًا، لم أكن أدرك تمامًا وزن ذلك اليومِ ولا أبعادَه ولا دلالاتِه.. ولا قيمةَ الشخص المُنتَظَر.. لم أكن واعيًا كفايةً لأفهم تلك المصطلحاتِ المعقدة أصلًا.. كل ما أراه، حديثٌ متواصل عن أمرٍ قادِم.. بدا لي أمرا مهمًّا وعليّ ألاّ أفوِّته..
اعتمدت على عمود كهربائيّ لأتسلق جدارًا مبنيًّا بجواره.. خطوت بعض الخطوات على الجدار بقدميَّ الصغيرتين لأجد نفسي في مكان استراتيجي جدًّا.. أمدّني بنظرةٍ علوية إلى تلك الجموع الغفيرة المتدافعة.. لم أكن أريد أكثر من رؤية ذلك الإنسان الذي يترقبه الجميع.. هل هو أمر ذا أهميّة حقًّا؟!.. في الحقيقة، لا أدري.. ربما سأفهم ذلك لاحقا، بعد أيام.. أو ربما بعد سنوات.. انتظرت كثيرا.. بل ومَلَلْت من ذلك.. كطفل صغير لا يحبِّذ الانتظار المتواصل ويملّ سريعًا من لحظات الترقب.. غادرت المكان!.. ونزلت من على الجدار..
بدأت أصوات الجموعِ تتعالى.. يبدوا أن الشخص المرتقَبَ قد قَدِم فِعلا.. أصابني الكثير من الحماس.. هرولت إلى الجدار الذي كنت فيه.. حاولت أن أقارِب بين خطواتِ رجلايَ الصغيرتين.. وصلت إليه.. لأجده ممتلئا عن آخرِه.. يا للصّدمة !!.. حاولت أن أجد طريقة لتسلقه من هنا أو هناك.. أو اختراق الجمعِ الذي اعتلاه.. لكن لا أمل.. أصابني إحباط شديد.. شديدٌ جدًّا.. كنت متحمّسًا جدًّا لرؤية القادِم.. لكن يبدوا أنه لا أمل.. لا أدري مصدر الحماس تماما.. فنحن نتحمّس لفعل الكثير من الأمور دون أن نعلَم سببًا لذلك.. هكذا فحسب..
بدأ القوم بالافتراق شيئا فشيئًا.. حتّى خُيِّل لي أني بقيت هنالك وحيدا.. لم أصدِّق بعدُ أنّي لم أحقق ما كنت أريده.. يبدوا أن اللحظات القليلة مرت سريعا.. حسب نشوة الناس وفرحهم، فالظاهر أنّ فرصة مّا من فرص عمري قد ضاعت.. ضاعت إلى الأبد.. بسبب تهوّرٍ وقلّةِ صبر !!..
أصابني إحباط مَّا.. حتى أصبح الأمر كخسارة معركة ما من معارك هذه الحياة.. كثُر حديث الناس عن تلك اللحظات القليلة لأيام وأسابيع.. وبرعوا في وصفها، وذكر تفاصيل التفاصيل.. وكلما فعلوا ذلك، كان شعور الإحباط يراودني من جديد.. لم أخبِر أحدًا أنّي لم أتمكن من رؤية الشخص.. كان فعلُ ذلك يعني إعلانًا لضعفي وقلّة حيلتي.. أو هكذا خُيّل لِي..
هكذا كانت إحدى الإحباطات التي احتفظت بها لنفسي.. لنفسي فقط.. فعلت ذلك لسنوات طويلة.. لكن الذاكرة ليست بذلك الوفاء المتواصل دائما.. فهي تخذلنا من حين لآخر.. وتفعل ذلك أحيانا بشكل نهائي !.. دون عودة.. أحيانا تمدنا بومضات من الماضي.. تمدنا بتفاصيل التفاصيل عن حادثة ما.. ثم تذهب.. لكن تلك الومضات قد تتوقف يوما ما بشكل نهائي تماما..
-والدي !.. أخبرتني بكل ذلك كي تتخلص من ثقل الذكريات على ذاكرتك إذًا؟!
-ليس تماما.. لا يمكنني أن أنفي أن يكون ذلك سببًا من الأسباب.. لكن هنالك الكثير لأضيفه لك.. هنالك نصف آخر للقصة.. لكنه حدث على بعد مكان وزمان من الحادثة الأولى.. ربما تَخَيَّلها الكثير حادثتين منفصلتين.. وكانت بالنسبة لي حلقة أخرى.. تكملة لما قد حصل من قبل فعلاً..
#يتبع ☺