تذكرت إحدى تطبيقات مشاهدة وتنزيل الأفلام والمسلسلات على هاتفي فقمت بالدخول إليها، لاحظت وجود قسم جديد بعنوان “مسلسلات رمضان 2020”.. دخلت إليه متطفلا لأجد قائمة منسدلة من المسلسلات لا تنتهي، لأدرك أنها قائمة تحمل كل المسلسلات العربية التي تعرض الآن على الشاشات يوميا بينما تهم البطون في عملية الرحي المستمر، والتي تجد فيها المعدة نفسها بشكل فجائي، بعد يوم راحة ما يكاد يكفي لتلقي من عاتقها أتعاب ما طحنته الليلة الماضية.. ولا حتى الأدمغة وعت بعد ولا أدركت ولا أحاطت بما ألقى إليها صاحبها من مواد مضاعفة من الصور والمشاهدات والقصص والمشاعر لم يألفها ولم يجد نفسه في مواجهتها إلا قبل أيام!.. لا أدري إن كان يدرك هو، أو صديقته المعدة، أن كل هذا إنما يقع تحت شعار “ليالي رمضان” وإحيائها.. وإنما ينتظرهم الكثير لاستقباله في قادم الأيام قبل أن تخور قواهم بشكل نهائي..
عودة إلى تطبيق الأفلام والمسلسلات الذي بهاتفي، ولأنني في مزاج رائع وسكون وسعة وهدوء، شرعت في حساب أعدادها.. كم أنتجت القنوات لنا من مواد حتى تجعلنا نتسمّر أمامها؟.. خمسون؟ سبعون؟ أكثر من ذلك؟.. وصلت الخمسين واجتزتها.. ثم بلغت السبعين واجتزتها أيضا!.. بلغت المائة! نعم فعلت وما ظننتني أفعل، ثم اجتزتها أيضا.. فكان محصلة تلك المسلسلات أكثر من مائة وعشر مسلسلات، تعرض كل حلقاتها يوميا على القنوات.. تخيل في ذهنك مائة وعشر مسلسلات تعرض في الآن ذاته، في الفترة من ساعة إلى ساعتين بعد الإفطار، كمائدة إعلامية على شرف الصائم المتقرب لله بصومه..
مائة وعشر مسلسلات.. بثلاثين حلقة لكل مسلسل.. وجدت العدد؟.. نعم هو بالضبط 3300 حلقة.. بمتوسط نصف ساعة لكل حلقة، إنها 99 ألف دقيقة.. هذا ما يتم عرضه كمادة نقية نهائية موجهة للمشاهدة، أما ما تم تصويره بالفعل وما تم صرفه من الساعات في طريق الإنتاج فالأفضل عدم عدّه وحسابه.. ناهيك عن الأموال التي ضخت في سبيلها.. أظنك تنتبه إلى أني أتحدث عن المسلسلات فقط، فلم أذكر حلقات الكاميرا كاشي ولا رامز المجنون وما شابهها ولا ليالي السمر واللغو والضحك “السامط” الذي لا ذوق له ولا طعم، والذي يمارسه الإعلاميون وضيوفهم في البلاتوهات..
آلة إعلامية وجيش عرمرم تم تجنيده من أجلك أنت فقط.. من أجلك فقط كي تبقى مسمّرا أمام الشاشة.. قد تتساءل ولماذا يفعلون ذلك من أجلي؟ ما الذي أقدمه لهم، لست إلا إنسانا لا حول له ولا قوة!.. هذا بالضبط ما يجعلك السلعة الأغلى، والهدف الأسمى في أعينهم.. كونك لا حول لك ولا قوة.. يجذبك كل طرف إليه كي يكسبك لصفه.. ستميل لمشاهدة قناة ما بسبب ما يعرض فيها، ثم تدعوا أهلك ليشاركوك، ثم تقترح القناة على أصدقائك في إحدى منشوراتك على الفيسبوك، أو تكتب تعليقا عن حلقة ما، مستهزئا أو منبهرا أو أيا كان.. هذا بالضبط هدفهم.. لأن شريان حياتهم هو ذلك المشاهد المسمّر إليها، وتلك الأموال المنهمرة من الإشهارات.. بدونك أنت لا وجود للمال، وبدون المال ستموت في أيام معدودات.. تجارة كاملة متوقفة عليك أيها الصائم..
آه تذكرت الآن أنك صائم!.. وبما أنك صائم فدعني أخبرك أن أسوء قرار قد تتخذه هو أن تحدد هذا المسلسل أو ذاك من أجل متابعته.. البرامج الرمضانية (وحتى الدينية منها) بالمئات ولا أشك في هذا.. فإنتاجها غير مكلف مقارنة بالمسلسلات، لذا فهي مُنتجة بالأضعاف.. متابعتها وتحديد مجموعة واسعة منها من أسوء القرارات أيضا..
إن كانت فرصة رمضان الممزوجة بالحجر الصحي هذه السنة لم تدفعك دفعا كي تضغط على مكابح حياتك والأحداث من حولك فمن بك سيفعل؟.. إن لم تجرب طعم الهدوء والسكون والريثم البطيء الآن فمتى ستفعل؟.. إن لم تَصُم اليوم عن الحياة التي تسرع وتسرع في سرعتها فمتى ستصوم؟.. أَجِّل جلّ البرامج المصورة لما بعد رمضان.. وأتحدث بالطبع عن المفيد منها.. إن كنت مهتما بها حقا وبمحتواها فخصص لها وقتا محددا وتابعها.. وإن لم تكن مهتما بها حقا فتكون قد حافظت على عقلك وهدوءك من أجل شيء أفضل لك..
اجعل رمضان فرصة للصيام عن الفيضان المتدفق على دماغك.. امنحه فرصة للهدوء حتى يمضغ ما يحمله من قبل جيدا.. ويستعيد ما يحمله ويفكر فيه ويمحصه مرة بعد أخرى.. كما يفترض لجسدك أن يفعل مع الغذاء إن كنت متحكما فيما تأكله وفي كميته (كما لا يفعل أغلبنا)..
مايقوم به معظمنا أشبه بهروب من السكينة.. أشبه بخوف من الهدوء الذي تعلوا فيه أصواتنا الداخلية.. نهرب ونهرب بلا نهاية.. فلا رمضان ولا الحجر الصحي منعانا من أن نتوقف عن فعلتنا هذه.. فُرض علينا الحجر وتسارعنا في البحث عن المسلسلات والبرامج والدورات التي نملأ بها أوقاتنا، ودخل علينا رمضان وركضنا أكثر وأكثر بحثا عن أفضل ما نملأ به أوقاتنا وبرامجنا.. كأن بنا إدمانا قد أسميه إدمان “أنا مشغول”.. تلك التي تلقيها على مسامع نفسك كلما دعتك للتريث والهدوء..
ترفّق بنفسك وأبعد المرئيات من أمام عينيك.. ألق بستائر على جهاز التلفاز لديك.. ثم أزح عن أعماق نفسك تلك الستائر التي غطتها طوال السنين بتجاهلك المستمر وسعيك المتواصل المتسارع.. إفعل ذلك واستمتع بالحياة الحقيقية.. إفعل ذلك وتذكر نية الصيام وانطلق في رمضان.. هذا هو رمضان الحقيقي.. رمضان الصوم عن كل الملهيات.. والتوجه إلى جنان نفسك، وإلى رب تلك الجنان..