مراجعة رواية العمى لـ جوزيه ساراماغو

قد تتساءل أحيانا ما الذي ينظم حياتنا نحن البشر؟ ما الذي يجعل علاقاتنا وتعاملاتنا تسير وفق قوانين معينة، قوانين تحدد المقبول من الفعل والمرفوض منه؟.. ماذا لو كسرنا كل القواعد، وأصبحنا نسير بلا نظام اجتماعي مقيِّد؟ نسير أين أردنا، ونأكل متى نجوع من أين شئنا، لا ندفع ثمن المأكولات، نسكن أين شئنا وإذا أردنا تغيير مكان إقامتنا غيرناه متى بدا لنا ذلك.. ماذا لو عشنا حياة كهذه حقا؟ كم ستدوم يا ترى؟ هل ستفضي إلى فوضى تأتي على الأخضر واليابس، ولا تنتهي إلا بآخر إنسان ينفث آخر أنفاسه خارج جسده؟ أم أن الناس سيعتادون على الفوضى كنظام وحيد يحكم عالمهم وسيستمرون عليه؟.. هل هذا النظام الإجتماعي الذي نسير عليه كان من اختيارنا؟ ويعبّر عن حقيقتنا ودواخلنا؟ أم أننا كائنات همجية فوضوية فرضت عليها القوانين والعقوبات احترام قواعد فوقية لا يمكنها تجاوزها، ولو وجدت أدنى فرصة لفعلت؟.. أسئلة كهذه تقودنا إلى رحلة بحث في أعماق نفس الإنسان وطبيعته، بحثا عن فهمه وفهم تفاصيله وحقيقته..

اختار جوزيه ساراماغو في روايته التي أسماها ب”العمى” أن يتخيل مآل عالم اجتاحه عمى غريب من نوع ما، عمى أبيض يسري بين الناس مثل وباء ينتقل من شخص لآخر.. تحاول الحكومة أن تحُدَّه في مكان واحد بعد أن حاولت أن تجمع كل من يصاب به في محجر صحي، كان مبنى مهجور لمستشفى الأمراض العقلية.. لكن الوباء لم يعترف بأي إجراءات، اجتاح الناس، واجتاحت معه الفوضى كل شيء.. انتشرت العصابات، ونهبت الأطعمة، عمي الجميع، وانتفى كل نظام.. أصبح الناس يتجولون بين المحلات بحثا عن أي أطعمة متبقية، أصبح الجميع يسكن في منازل الجميع، وانتشرت النفايات والأوساخ في الشوارع..

في ذلك المحجر، تبدو ظروف الحياة تنخفض مع كل يوم أكثر فأكثر، وبما أن الجميع كان أعمى، فيبدو أنهم اعتادوا على الوضع شيئا فشيئا.. الغريب أنه حتى أسوء الطرق التي قد تؤدي إلى حتفنا المؤكد يبدو أننا نعتادها بسهولة.. كانت هنالك تلك الرغبة في النظام واتباع القانون من أجل المصلحة الجماعية، لكن الأمور كانت تنحدر نحو الأسوء يوما بعد يوم.. حتى في أسوء الحالات، أو في أسوء الحالات بالذات، تظهر الذات المتعالية للإنسان، تظهر تلك الصورة المقيتة التي تنادي ب”الأنا” بأعلى صوتها.. في حالتهم تلك، كانت هنالك عصابة قد تكونت لتنهب طعامهم، وتحرمهم حقهم الطبيعي فيه، فسرقتهم واستغلت نساءهم وأذلتهم أيما إذلال..

“لا أعتقد أننا صرنا عميانا.. أعتقد أننا عميان أصلا.. نحن عميان لكننا نرى.. عميان بوسعهم أن يروا، لكنهم لا يرون”

وعندما ختم ساراماغو روايته بهذا كان يريد أن ينبهنا إلا أن العمى الذي يقصده ليس ذلك العمى المادي الذي اعتدناه، لكنه عمى آخر، قد نصاب به بالفعل ونحن نعتقد أننا مازلنا قادرين على الرؤية..

طالعت الرواية بترجمة علي عبد الأمير صالح، فكانت لغته ممتعة جدا.. إضافته لعلامات التنصيص للحوارات كان مفيدا لحد بعيد وقد أعجبتني هذه الإضافة مقارنة بالنص الأصلي.. ففقد اعتمد ساراماغو في كتابته على الجمل الطويلة التي تفصلها فواصل، تحوي داخلها على الحوارات.. بدأت قراءة الرواية بترجمة أخرى كانت قد اعتمدت نفس الأسلوب، فأصابني الأمر بالارتباك في كثير من الأحيان..

تم إنتاج فيلم مستوحى من الرواية بعنوان Blindness, سأحاول أن اطلع عليه لاحقا.. رغم اعتقاد مسبق أن الأفلام غالبا ما لا تعطي للروايات حقها الكامل، فقد تركز على مشاهد وتهمل أخرى.. لكني أرجو أن يكون فيلما ممتعا..


اشترك في قناة التلجرام من هنا لمتابعة كل جديد، حيث أشارك الكثير من الأفكار والاقتباسات والخواطر والآراء.. 😊

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s