6 أسابيع من مغادرة الفيسبوك.. ما الذي تغير؟!

في مساء اليوم الثاني من أفريل، غادرت محاضرة الأستاذ ياسين بوڨرينات بعد انتهائها بروح جديدة. كانت تجربة واقعية ومثالا حقيقيا عن التخطيط الفعال والنظرة المستقبلية، والمثابرة في سبيل البحث والعلم، والمحافظة على قيم الروح والعقيدة والدين رغم كل ما يحيط به في وسط دراسته وعمله من المجتمع الغربي الذي يعيش فيه بكل خصائصه وسماته.. كانت المحاضرة بالنسبة لي دفعة أخرى ونظرة جديدة لأمور عديدة.. بلغت منزلي فألقيت نظرة على الفيسبوك وجديد أخباره، كأول ما يفعله المرء عندما يدخل نطاق “الويفي” الخاص به، فقابلني ذلك الخبر الذي لم أصدقه إلا ووجدت نفسي أقلب صفحات القنوات الإخبارية الواحدة تلو الأخرى لأتأكد من صحته، فالشائعات كانت قد بلغت أقصى ما قد تبلغه في تلك الأيام.. كيف أصدق بسهولة وقد كنت أحمل يقينا في داخلي، أقرب إلى عقيدة راسخة منه إلى رأي عابر، أن رئيسا كبوتفليقة، يحمل من حب أناه في داخله ولا يرى أحدا أحكم منه ولا أقدر على تسيير البلاد مثله، أن يستقيل من منصبه قبل أن يموت، دون أن يقضي آخر أنفاسه وهو على كرسي الحكم كما يخيل لكل دكتاتور..

في لحظات كانت السعادة تغمر كل تفاصيلي.. ذلك الشعب الذي آمنت بثورته قبل أشهر يربح أولى معاركه.. ذاك الشعب الذي وقف ضد الخامسة، ثم ضد تمديد الرابعة بعد ذلك، لينتهي الأمر برئيسه وهو يستقيل قبل أن تنقضي الرابعة أصلا.. نشرت ما نشرت حينها من منشورات تحمل مزيجا من الفكاهة ونشوة الفرحة.. لم أكن قد نشرت ذلك العدد من المنشورات في يوم واحد من قبل في حياتي حسبما أتذكر.. فجأة ودون تخطيط سابق خطرت ببالي فكرة مغادرة الفيسبوك لأن اختبارا كان ينتظرني من هناك على بعد أيام.. كنت على شبه يقين أني لن أنجح فيه، ومغادرة الفيسبوك لن تقدم ولن تؤخر في شيء.. لكنني أقدمت على ذلك على كل حال..

“من ذاق عرف، ومن عرف اغترف”..

لم أكن قد خططت للأمر من قبل، ولم أحدد مدة معينة أعود بعدها.. لكني قد خضت تجربة مشابهة قبل عامين، امتدت لتسع وتسعين يوما.. من بداية شهر أفريل إلى بدايات شهر جويلية من سنة 2017.. كانت تجربة رائعة جدا أذاقتني حينها حلاوة الحياة دون تنبيه رسالة من أحدهم بين كل فينة وأخرى، وبلا إشعارات تعليقات ولا إعجابات، وبلا دخول متكرر لتفقد منشور ما، وبلا تفقد للهاتف انتظارا لإشعار ما، وبلا مشاعر تأنيب للضمير قد تنتابني بعد وقت أشعر أنه قد مر هباء في تتبع وقراءة ما يفيد وما لا يفيد.. فعلت الكثير حينها، وحققت بعضا مما خططت له، لكني شعرت أنها كانت من الممكن أن تكون أفضل بكثير.. مرت تلك التجربة ولم أدون شيئا من ملاحظاتي عنها، لا لنفسي ولا لأصدقائي، آلمني هذا الأمر بعض الشيء.. كنت قد ذقت تلك الحلاوة حينها فعرفتها.. ففكرت في أن أغترف..

من عقول واعية إلى مصبٍّ للمحتوى..

فمن أكبر سلبيات مواقع التواصل الإجتماعي بالنسبة لي، هي تلك الحالة التي تكون فيها مصبًّا لكميات هائلة من المواد والصور والمنشورات والمواضيع المختلفة، اختلاف أقصى الأرض عن مغربها، في لحظات قليلة.. مجرد تصفحٍ واعٍ لعشر دقائق سيتركك مبهورا أمام عدد المواضيع والمجالات التي قرأت عنها.. عن رأي أحدهم فيها، أو نقْلِ كلام شخص آخر عنها، أو أمام النكات والطرائف التي تُلقَى على ذهنك.. والأمر يتوقف أساسا على حسابك ونوع المحتوى الذي يروقك وتتابعه فيظهر لك بشكل مكثف عن غيره بالتبع.. والأمر الذي يُعقِّد هذه الحالة أكثر هو أن التدفق يستمر دون انقطاع ما دمت تلمس بأصابعك الشاشة من أسفل إلى أعلى دون توقف، وقد أشرت في تدوينة سابقة بعنوان “شبكات التواصل الاجتماعي وعلامات التوقف” لهذا الأمر.. فسلبية هذا تكمن أساسا في حالة التشتيت وفقدان التركيز الذي تصبيك وأنت تحاول أن تعود لعملك أو مهمتك أو حتى لدرسك الذي ينتظر منك إنهاء مراجعته بعد وقت مستقطع للاطلاع على تلك المواقع، فضلا عن حالة الشعور بالخروج خاويا فارغا دون أي فائدة تذكر بعد قضاء وقت طويل بين الصعود والنزول.. وقد تتساءل مستغربا، لكن وكما يوجد المحتوى غير المفيد توجد المنشورات القيمة! وأخبرك أن الأمر صحيح، لكن مشكلتي أساسا مع التدفق الكبير وطريقة التعرض لتلك المواضيع المختلفة.. فعقولنا كبشر ليست مصممة لاستقبال ذلك الكم الهائل من المعلومات مع التركيز معها وتحليلها وفهمها جميعا، ما قد يسبب لها تشتتا واضحا وفقدانا للتركيز.. وعيش أيام بدون تلك المواقع يجعلك تستلذ راحة التركيز على المواضيع والتنقل بينها بشكل أكثر أمانا وانسيابية وتوافقا مع ما جُبِلت عقولنا عليه..

التواصل، من حاجة إلى عادة..

وفي غمرة ثورة “التواصل الاجتماعي” التي غزت العالم، تحول التواصل مع الآخرين من رتبة “الحاجة” إلى رتبة “العادة”.. فبعدما كان حديثنا مع الآخرين بدافع الاحتياج لعصور طويلة، أصبح الآن تواصلنا مع الآخرين بدعوى “باسكو راه مكونيكتي”، وبدعوى أن الضوء الأخضر يظهر جانب اسمه.. فتجد نفسك أمام هذا الأمر إما ضحية لهذا الاعتقاد فتسرف في الحديث وتضيع على نفسك أثمن الأوقات وأنفَسَ الجهدِ والطاقة، وإما وقيعة لأشخاص سيطر عليهم هذا المفهوم وملكهم.. فأصبحنا نتحدث فقط لأنه متاح لنا أن نتحدث، ونتواصل فقط كي نتواصل.. وبهذا ضاعت الكثير من أثمن الأوقات والجهود والطاقات.. وخوض تجربة أيام طويلة بدون الولوج لمواقع التواصل سيعيد لذهنك مفهوم التواصل الحقيقي شيئا فشيئا، وسيعود لطبيعته الأصلية دون تفريط فيه، لأننا كائنات اجتماعية بطبعنا، ودون إفراط، لأن عقولنا ما خلقت لذلك، ولا يناسبها ذلك النمط المكثف من التواصل إلا وتَشتَّتَ تركيزها بين مختلف الأمور..

قد يكون ملخص كل ما سبق، أني تمكنت من عيش فترة راحة حقيقية بعيدا عن “المواضيع المتدفقة” وعن “عادة التواصل” اليومية.. وكل هذا يقدم على طبق من ذهب جهدا وطاقة كبيرة – كانت تذهب سدى – وتركيزا يمكن للمرء أن يستغلهما أكثر في تطوير مهاراته وتنظيم أوقاته وتحديد أهدافه ووضع خطط حقيقية فعالة لقادم أيامه.. وهذا ما يجب للشباب حقا وهم يدخلون مضامير الحياة ودروبها أن يتقنوه ويصرفوا أوقاته وجهودهم فيه.. فلطالما رأيت ذلك الانغماس في غمرة مواقع التواصل منذ سنين الشباب الأولى ورؤية الحياة بنظارتها وامتلاكهم نظرة مشوهة للحياة أقرب لاستسهال الأمور والتكاسل في القيام بالواجب، وتفضيل المكوث على الفراش مدة طويلة بهاتف بين اليدين صباحا، على خطو خطوات قليلة لغسل الوجه واليدين لمواجهة الحياة الحقيقية..

كانت مجرد مجموعة من الأفكار قد زارتني وأنا أهم أكتب عن هذا الموضوع.. ولم أستطع أن أضيف بعض الأفكار الأخرى لطول المقال، وسيأتي موعدها بإذن الله.. الأيام تمر سريعا، حتى أن أول ما خطرت ببالي فكرة هذا المقال، كان عنوانه “15 يوما من مغادرة الفيسبوك”.. وما إن هممت في خط أفكاره حتى وجدت نفسي في الأسبوع السادس منه.. سأفصل أكثر في موضوع مواقع التواصل وتأثيراتها في مقال قادم بعنوان “هل علي أن أغادر الفيسبوك؟” بإذن الله..

دمتم بخير و للخير دائما..
وصح رمضانكم..

الإعلان

6 Comments اضافة لك

  1. إبراهيم بن عمر كتب:

    شكرا لك يا عبد المجيد بوركت أناملك .. تقبل الله منك صيامك وقيامك ونشرك لما علمه الله لك ..دمت مبدعا بفكرك 😍🙏 وأنا أنتظر المقال التالي بفارغ الصبر ؛ وفقك الله

    إعجاب

    1. تقبل الله منا ومنكم يارب.. شكرا على تعليقك الجميل إبراهيم.. ☺️

      إعجاب

  2. Khaled Chikh Baelhadj كتب:

    شكرا حبيبي عبدو لدي تجربة مماثلة وقد كررتها فعلا إننا تصنع فارقا

    إعجاب

    1. إن كانت لديك أي ملاحظات خاصة بك بخصوص تجربتك سأكون ممتنا لك كثيرا إن شاركتها معي ☺️

      إعجاب

  3. Wafa Gouri كتب:

    صح فعلا، الانعزال عن مواقع التواصل الاجتماعي ( الفايسبوك خاصة) له مفعول خاص، ومثلما ذكرتم في المقال. تمنح فرصة للتركيز أكثر.. فبعد تجربة ذلك لثلاث مرات ( آخر مرة كانت لمدة شهر) صنعت الفارق،. فمجرد الاطمئنان أن الهاتف لن ينبه عن وصول رسالة أو إشعار يمنح العقل راحة تجعله متعلقا أكثر بما يحدث حوله في الواقع وبنا هو منشغل به فيبدع فيه أكثر
    ( تعليق على بقالب تعقيب على ضوء تجربة)
    شكرا لصاحب القلم الذي خط هذه المقالة فقد اختار موضوعا رائعا.. موفقون

    إعجاب

    1. كل التوفيق لك أيضا.. شكرا على التعقيب..

      إعجاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s