متكئا على أريكة في غرفة الجلوس، تتناول جهاز التحكم عن بعد كي تؤدي إحدى طقوسك اليومية المعتادة، تشغل التلفاز بعد يوم شاق مليء بالأحداث، فإذا بأول ما يقابلك منها عبارة بخط كبير متلألئ “رمضان كريم” ، مصحوب بفانوس بالجوار غالبا، مع موسيقى أندلسية خفيفة.. وبدون أي سبب واضح يسيطر عليك شعور بصداع خفيف يزحف على رأسك شيئا فشيئا.. تحضرك فجأة كل معاناة التحضير له، لرمضان، الضيف السنوي الذي لا يخلف وعده.. فالتوجه نحو السوق قبل أيام عديدة منه لحمل أقصى ما يمكن حمله من هناك أضحى عادة سنوية، ومرافقة الأبناء قبل أيام من قدوم العيد لاختيار بدلة العيد أصبحت لزاما لا نقاش فيه.. “أمر مؤرق فعلا” تقولها في أعماقك وأنت تطلق تنهيدة خفيفة لا يمكن تقديرها، ولا تقدير الحِمل الذي يقبع خلفها.. مجرد التفكير في رمضان يجعلك في حالة مزيج من الانشراح وأنت تتذكر جمال لياليه، وقليل انقباض وأنت تتذكر عادات التحضير له من جهة، والتعب الذي يرافق صباحاته من جهة أخرى..
تنتبه فجأة من جموحك على صوت امرأة رهيف منمَّق يقول “المسلسل الجزائري، بمخرجه الضليع، وممثليه المتمرّسين.. حصريا على قناتكم”.. وقبل أن تنتبه لاسم المسلسل أساسا وعنوان القناة، يأخذك عقلك لمتاهات وسبل أخرى.. ما يعده المخرجون ومنتجو البرامج في تلك القنوات أكبر من أن يستوعب.. أشبه بفيضان منه إلى موسم عادي ترتفع فيه عائدات الإنتاج قليلا.. مسلسل بعد آخر، يجمع بين أغلبها طابع الفكاهة، ويفرق بينها النوع السينمائي، والتوجه الفكري (أو الفراغ الفكري) ومقدار ثقل الدم أحيانا.. إن كان نصف الإنتاج أو أقل من ذلك إنتاجا لسلاسل تلفزية فالباقي برامج “شبه كاميرا كاشي”، أقرب إلى السخافة والهراء وثقل الدم منه إلى الضحك البريء الطبيعي.. ثم تتذكر العدد الهائل من اللافتات والإعلانات واللوحات التي ملأت الشوارع، وواجهات المحلات، وجوانب كراسي الانتظار تذكرك باقتراب موسم استثنائي، وقد كانت كأنها تلاحقك أينما صرفت ناظريك.. تخبرك وتعيد، رمضان كريم.. فقط في رمضان..
تذهب بفكرك أبعد من ذلك.. وتتساءل، موسم استثنائي!.. أي موسم هذا! وبأي تاريخ بالضبط تحول رمضان الروح والارتقاء إلى موسم استثنائي؟.. عصر “الاستهلاك” و”سلطة السلعة” و”حكم السوق” و”مراكز التّسوّق” لم يرحم شيئا.. لم يَدَع أمرا ذا معنًى إلا وأفرغه من دلالته.. ولم يترك معيارا غير معيار الثمن مقابل السلعة.. كل شيء تم تسليعه.. رمضان القُرب، رمضان التوبة، رمضان الكرم، رمضان العبادة، رمضان تذوق حلاوة الإيمان والتسليم أصبح “تخفيضات شهر رمضان”، “عروض رمضان”، “حصريا في رمضان”، و”خلال شهر رمضان”.. أحد أشهر الطقوس الروحية التعبدية حول العالم، وأطولها من حيث المدة – ربما -، شهر رمضان وصومه، لم يعد أكثر من موسم اقتصادي استثنائي، وموسم تلفزي فريد لا يعود إلا مرة في السنة.. ويجب أن تسخر كل جهود باقي السنة من أجله.. لم يعد أكثر من موسم ترتفع فيه الأرباح وتزداد المبيعات، تمتلئ الموائد وترتفع أسعار السلع وتفرغ من الأسواق.. وترتفع في عالم آخر عدد المشاهدات، ويتضاعف الزوار، ويكثر المتابعون.. رمضان النماء، أصبح مجرد سلعة في رف من رفوف السوق..
البائعون في الأسواق، محلات العروض الاستثنائية، مراكز التسويق، العاملون خلف الشاشات، الواقفون أمام آلات التسجيل والتصوير، وصانعات محتوى الطبخ على اليوتيوب، يعيشون موسما استثنائيا بامتياز.. وتبقى أبواب الجنة المفتوحة تستقبل بحفاوةٍ “الصَّفوةَ” التي فهمت المعنى، و”الأخيار” الذين أدركوا مفهوم “رمضان الحقيقي”، وأدركهم.. فلا هو في رفوف الأسواق، ولا في أروقة مراكز التسويق و”المولات”، ولا في موائد الأكل المنمقة، ولا في طاولات السهر الليلي، ولا أمام شاشات التلفاز، ولا في سبات النهار وسهاد الدجى.. رمضان هناك في موعد استثنائي، مع فئة استثنائية، أبواب مشرعة، وأخرى مقفولة، وشياطين مصفدة.. رمضان الحقيقي بعروضه المغرية، بلا لافتات مضيئة، بلا جلبة ولا ضجيج، يدعوك إلى محراب السكينة والراحة النفسية، يجذبك إليه، ويبعدك عن سقطاتك وأهوائك وأخطائك التي اقتطعت من نفسك الكثيرَ حتى استنفدتها..
تقف هناك أياما قبل رمضان.. تلقي نظرة فاحصة أخيرة على ذنوبك وخطاياك.. ستجد نفسك ملزما – لا مخيرا – على اجتنابها أيام رمضان، ثم يخطر ببالك السؤال المتردد في كل مرة: هل سيكون رمضان كسابقيه؟ هل سيكون رمضان هذا العام طلاقا وهجرانا كاملا تاما أبديا لكل آثامك وزلاتك؟ أم سيكون مجرد فترة راحة فاصلة تعقبها عودة أخرى!.. السؤال نفسه والحيرة نفسها في كل مرة.. الخَيَار أمامك.. رمضان يفرش موائده لك ليذيقك الحلاوة.. “ومن ذاق عرف ومن عرف اغترف”..
“أياما معدودات”.. سترى الشهر بأكمله وتستطوله، ثم تجد نفسك في آخر أسبوع منه قائلا “قد مر في غمضة عين”!.. هذا هو رمضان وهذا كل أمر من أمور حياتنا، وهذه هي حياتنا بطولها.. “أيام معدودات”.. لا تخبر نفسك بأنك ستقرأ من القرآن كذا يوميا، وستختم القرآن كذا مرة خلاله.. لقراءة القرآن أجرها، ولفهمه وتدبره أجره المضاعف.. لا تنطلق في قراءته من أجل إنهائه، فتجد نفسك في حالة أقرب إلى السباق والهرولة والتخطي والتجاوز منها إلى التروي والحذر والبحث عن المعنى والغوص في أعماق الفكرة.. وفي صباح يوم العيد، صباح فرحة الصائم الأولى، ستكون أمام اختبار حقيقي، لترى إجابة سؤالك الأول واقعا أمامك.. هل كان مجرد رمضان آخر ثم تعود لما كنت عليه من قبل، أم أنه كان رمضانا مختلفا.. الأيام اللاحقة كفيلة بالإجابة..
اختر لنفسك رمضان الذين ستعيشه.. رمضان بنسخته الأصلية، أم ذاك الذي أنتجته لنا الحداثة.. في الأخير هو شهر وحيد في السنة، سيعود حتما، لكنه قد يعود فلا تلتقيه.. ما تبثه الشاشات سيحفظ في “سيرفرات” لا يمحى منها إلى أن يشاء الله.. والأسواق والسلع نفسها.. لكنه رمضان الصوم، ورمضان الصلاة والدأب عليها، ولحظات المغفرة والسمو التي تمر فلا تعود.. فاختر لنفسك “رمضان” الذي تريد..
وأقول لك كما قال د. أحمد خيري العمري في كتابه – الذين لم يولدوا بعد –
“وقبل أن أنسى : كل رمضان وأنت بخير..
أعني: كل رمضان ورمضانُ حقًّا رمضان.. يا صديق.”
ماشاء الله بوركت يا عبد المجيد ملخص وافي وكافي لكتاب العمري بأسلوب رائع من أجمل ما قرأت … شكرا شكرا شكرا
إعجابإعجاب
أقرب إلى إنتاج مختلف للأفكار منه إلى تلخيص.. شكرا جزيلا لك 😊
إعجابإعجاب