في عمق مسيرة سلمية

رششت بعضا من قطرات العطر على ثيابي، ذاك العطر الذي يرفع بالنفس إلى معالي الفرح ومعاني الجمال منذ أول اختراق لحاسة الشم عندي.. مشطت شعري، قلبت وجهي في المرآة يمنة ويسرة.. تفقدت أوراقي ومفاتيحي في جيبي.. صعدت أنزع العلم الجزائري المعلق على حائط جدار الغرفة.. كان قد تبوء مكانه هناك منذ مالا يزيد عن أسبوعين.. قبل ذلك بأشهر عديدة، كنت أرى علما صغيرا كان قد علقه صديقي جنب الخزانة، لكني لم أكن أرى فيه أيا من المعاني.. كان العلم الجديد أكبر، والمعاني التي ينبض بها أكبر.. كيف لا وقد نفخ فيه الشعب الأبي من روحه، قبل أسابيع عشر.. فعاد يرفرف بروح ثورية نوفمبرية، مليئة بمعاني الثورة ورفض الاستبداد والاستعباد.. نزعته، قمت بطيه، فحملته بكل ثقة.. كان فعلا كهذا قد يكون مجرد “تمهبيل” في فترة ما قبل عشرة أسابيع..

نزلت من الحافلة بنفس تواقة للقاء شعبها.. كانت قد سبقتني للميدان وأنا مازلت أخط أولى خطواتي خارج الحافلة.. فتحت علمي بكل فخر، مسكت بالجانب الأخضر منه، أدرته حول عنقي، ثبته بعقدة بسيطة حوله، فأصبح منبسطا على ظهري يزينه.. بخطى متسابقة متسارعة، أصبحت نسمات الهواء تلاعبه وترتفع به لأعلى ثم تتركه.. لا أدري أكنت أستمد منه قوة، أم هو الذي كان يفعل.. كنت قد خرجت مرات ومرات قبل ذلك.. فمرة مع الطلبة ومرة مع كامل الشعب.. أحيانا في ولاية دراستي، ومرات في العاصمة، وأحيانا أخرى في أرض طفولتي وشبابي.. خرجت أكثر من مرة، ورأيت واقعا أناسا يتقاسمون نفس الألام، ويحملون نفس الأحلام، ويرفضون ذات الظروف.. لكن هذه المرة، وبشكل مختلف عن كل المرات التي خرجت فيها قبل ذلك، خرجت باحثا أقرأ الوجوه وتعابيرها، خرجت باحثا عن تصريحاتها وما تفصح به، عما تبوح به، قبل أن تبوح الأفواه والألسن بالكلمات.. خرجت كي أعوم في بحر التعابير وعالمها..

خرجت باحثا عن الكلمات في وجوه الجدات، في وجوه “الحاجّات”.. في وجوه الكبار وتقاسيم جباههم.. في ابتسامات الصغار وبراءتهم.. وفي كلمات الشباب وقوتهم ونشاطتهم، وهم يرفعون صوتهم عاليا، ليسمعوا العالم أجمع آمالا يحملونها بين جنباتهم.. ومستقبلا مرسوما في مخيلاتهم يتمنونه واقعا في بلادهم.. نزلت أقطع الحشود والجماعات.. أبتسم للوجوه فترد بكل عفوية.. أقرأ أملا في بعضها تراه قادما.. وألما في البعض الآخر على كل السنين التي مضت، وما حملته من مصاعب وظروف قصمت الكثير من الظهور، وتركت الكثير يصارع مشاكل الطريق أعرجا.. سنين عجاف فعلتْ فيها مجموعة فاسدين أقسى ما قد يفعله حاقدون بأرض وشعب ما.. سرقت ما سرقت، وحاولت إنشاء بعض آثار المشاريع من بعض ما تبقى من فتات سرقاتهم..

مجموعةُ “عصابةٍ” فعلت فعلتها، هدمت الثقافة، وأعلت من شأن الرقص والمهرجانات.. هدمت التربية، فلم تعد المناهج أكثر من حشو معلومات يزداد تكديسا أكثر فأكثر كل مرة.. ولم يعد التلميذ كائنا ولا عقلا يجب الاستثمار فيه وفي قدراته.. ولم تترك اقتصادا قائما على رجلين قد يستطيع أن يحذو الخطى المتثاقلة بهما بعدهم، أو يجد ما يداوي به جراحه، فلم تعد للدينار قيمة، ولا للمحللين الحقيقيين مكانا، ولا شيء يملأ الخزينة غير عائدات البترول، مع سوق للاستثمار شبه ميتة.. ولا بنى تحتية، ولا طُرُقًا، ولا خدمات قد تحفظ الحد الأدنى من قيمة الإنسان وكرامته.. عصابة كانت تدير البلاد بالتلفون، وتوصيات “بعثني لِيك فْلَان”..

خرج الشعب وهو يستمد القوة من أعماق ثورة نوفمبر.. خرج وهو يستمد ثقة في نفسه وفي عدالة قضيته من الأوائل الذين ثبَّتهم صُوَرًا أمامه فاتخذهم وقودَ إصرار نحو هدف تنظيف الواقع من وسخ المفسدين وآثارهم.. خرج وهو متيقن كل اليقين أنه يعيش لحظات فارقة في التاريخ، لحظات سيقال عنها حتما أنها “تاريخية”.. تلك اللحظات التي لطالما سمع عنها عبر الألسن والكتابات عن سنوات وعهود سابقة مضت، أما أن يعيشها واقعا في يومه فذاك وقود آخر يدفعه للاستماتة أكثر.. كيف لا يكون كذلك، ولم يسبق أن حدث مثل ما يحدث الآن من قبل، إلا في حقبة الإستعمار.. كان الأجداد (الشباب حينها) يخرجون إيمانا منهم بحقهم في الأرض، وفي نسائم الحرية، وفي عيش الكرماء، أسيادا فوق أرضهم.. خرجوا ضد المستعمر، وخرج أبناؤهم ضد أبناءِ وأذيال نفس المستعمر.. الآن وهنا، أعاد الشعب شريط الأحداث للوراء، ليتيقن تماما أن ثورة المليون ونصف مليون شهيد، وما سبقها من أكثر من مائة سنة من الإستعمار قد خُطِفت بالفعل وأجهضت في أولى سنواتها.. أجهضت باستعمار أكثرَ نعومة، متخفيا خلف أنذال يدينون في أعماق قلوبهم بالولاء له، وينادون بالوطنية بأعلى أصواتهم.. وخلف اتفاقيات دولية.. واستعمار اقتصاد سِلَعِيٌّ، يذهب العقول، ويجري القلوب لهثا وراءه..

“البلاد بلادنا ونديرو راينا”.. ربما قد تكون مجرد كلمات ألهم بها أحد المتظاهرين فنادى بها عاليا.. حتى انتشرت كالهشيم وأصبحت تدوي في كل مكان.. أصبحت أرى فيها معنًى عميقا أصبح يسري في النفوس.. شعور تاريخي بامتلاك الشارع.. ذلك الشعب الذي لطالما خوّفه نظام الاستبداد من الدم والقتل، جالبا ورقة العشرية السوداء تارة، ومستغلا أوضاع دول تكالبت عليها القوى العالمية حتى طمست كل جميل فيها تارة أخرى.. في خِضَمِّ تلك السنوات فقد صلته بالشارع، ولم يكن أكثر من مجرد طريق يقضي فيه وقته متنقلا بين مصالحه.. مجرد وسيلة عبور ملك للدولة.. لطالما تذمرتُ من هذا الشعب الذي تراه يزين بيته وينظفه، ويرمي بالأوساخ في أقرب نقطة من بابه بشكل عشوائي.. رافقني ذلك الشعور بالغضب أحيانا وبالحزن أحيانا أخرى، وأنا أراه يفسر فعله ذلك أن الشارع ليس ملكًا له.. هو ملك للدولة، وما للسلطان فهو له، لا يعنينا منه شيئا، وقد يعنينا إفساده وتخريبه “زْكارة فالدُولة”.. ثم كُتب لي أن أرى شعبي وهو يفهم شيئا فشيئا أن ما يخاف منه الحكام ليس الدم ولا الخسائر التي طالما خوّفوا بها، إنما خروج الناس للشوارع واستعادتهم لمنبرهم الطبيعي وميدانهم الحقيقي وسيطرتهم عليه، الأمر يشكل هاجسا حقيقيا لكل المستبدين..

حملات النظافة التي انطلقت أول الأمر كحملات لتنظيف الميادين بعد المسيرات والمظاهرات، توسعت لتصبح حملات نظافة أوسع، لكل معالم المدن في كامل القُطر.. وفي حملات تزيين وطلاء ورسومات جدارية كانت تتسم في غالبها بطابع الثورة والوطن.. حتى تلك التي انتشرت داخل الجامعات والكليات عبر الولايات.. عندما يصبح الشارع مِحرَابًا للشعب، فإنه لن يرضى أن يُدنَّس أمامه.. وعندما يصبح حرم الجامعة ملكا للطالب فسيكون الميدان الذي يعانق إبداعاته وأفكاره ومكنوناته.. من لقاءات فكرية، إلى مسرحيات هادفة، إلى رسومات جدارية، إلى تنظيف للمساحات الخضراء، وأكثر من ذلك كثير..

بعد أسابيع عشر.. يتحدث البعض من هنا أو هناك حديثا عن فشل الحراك في بلوغ مرامه.. يفعل البعض ذلك بحسن نية، وآخرون دأبوا على أحاديث التشكيك منذ الجمعة الأولى.. سنكون مخطئين تماما إذا اعتقدنا أن فساد العشرين سنة، ونظام ما بعد الثورة الذي يصل عمره سبعا وخمسين عاما قد يزول في أسابيع ويخلي الطريق لمن يريد خيرا للبلاد والعباد.. لن يفعل ذلك وقد تجذَّر تجذُّر الشجرة في التربة على مر الأعوام.. قد يشوه الإعلام المطالب نعم، قد يحصر تغطيته على عاصمة البلاد كأنها الميدان الوحيد نعم، قد لا نتفق على خطة وحيدة نعم، قد يتقاعس النظام عن إجراء أي خطوة في الطريق الصحيح أجل.. لكنها قواعد اللعبة وقوانين الثورة ومجابهة الفساد هكذا.. كل هذا كان حاضرا منذ أول الحراك وليس أمرا مستحدثا فيه.. الأهم أن نتفق في رفض النظام جملة وتفصيلا، ونتفق في رفض إعادة إنتاجه بأي وسيلة كانت، دستورية أو غير ذلك.. أما الطريق القويم لفعل ذلك، فيجب أن يستمر النقاش والحوار والأخذ والرد حتى تنبثق الحلول والمسارات..

“نحن شعب صبور، لذا حرام علينا أن نضيّع فرصة تاريخية كالتي نعيشها اليوم، فإن فعلنا فسنعود إلى بيوتنا سنين أخرى” هذا ما قاله الأستاذ مصطفى بوشاشي في ندوة بجامعة مولود معمري بتيزي وزو.. سكوتنا يعني عودة أقوى للنظام لينتقم لنفسه.. نشرنا للتشاؤم لن يخدمنا غالبا.. يجب علينا بدلا من ذلك أن نصرف كل ما يمكن صرفه من جهودنا في مرافقة مسيرات الميدان بجهود الفكر والمعنى..

أرى أملا قد كسا الوجوه.. وبهجة قد أحاطت بالنفوس.. وكبارا في السن يبتسمون وهم يشاهدون أبناءهم وقد هَمُّوا لبناء جزائر طالما حلموا بها.. وأباء خرجوا للشارع ليُضْفُوا معانٍ أعمق للحراك.. وأطفالا خرجوا ليعيشوا بداية عصر سيعيشونه في السنوات القادمة بإذن القدير..

في قلبي أمل كبير قد نما..
أتمنى ألا يجتث قريبا..

الإعلان

4 Comments اضافة لك

  1. Khaled Chikh Baelhadj كتب:

    يحيالي مجيد فور يعجبي حاجة شابة

    إعجاب

    1. شكرا جزيلا خالد نغ 😊

      إعجاب

  2. Hassan Babaousmail كتب:

    إنه لوصف بليغ عن الحراك ، شكرا لك على هذه المقالة الرائعة
    و كما قال الأستاذ مصطفى بوشاشي “نحن شعب صبور، لذا حرام علينا أن نضيّع فرصة تاريخية كالتي نعيشها اليوم، فإن فعلنا فسنعود إلى بيوتنا سنين أخرى”
    علينا بالمواصلة و عدم ترك حقنا في التعبير و التظاهر حتى لو تحققت كل مظالبنا و رأينا رئيسا نرضاه .

    إعجاب

  3. غير معروف كتب:

    اجمل مقالة قرأتها 👍👍
    مزيدا من التألق والنجاح

    إعجاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s