– هناك من يقوم بجهد فكري (معلم، كاتب، محامي، صحفي..) فهو مفكر، وهناك من يقوم بجهد بدني (كعامل البناء، والخياط..).. المثقف (Clairvoyant) هو المستنير وواضح الرؤية والعقلاني.. فقد يكون المفكر مثقفا وقد لا يكون كذلك..
– هؤلاء العلماء غير الدينيين (الذين ظهروا بعد علماء الكنيسة، وضدهم، بعد القرن السابع عشر، المعتمدون على العلم أساسا) هم المشتغلون بالفكر، هم طبقة أهل الفكر، أي أن أولئك الذين كانوا قد درسوا في مدارس غير دينية وعلى أيدي أساتذة غير علماء المراكز الدينية ومدرسيها.. يقومون بعمل فكري، لكنهم ليسوا من الروحيين أو علماء الدين وليسوا من الكنيسة، هؤلاء هم المشتغلون بالفكر، المتعلمون الجدد، هؤلاء هم الذين ظهروا كطبقة في القرن السابع عشر..
– تتشكل الطبقة عندما تظهر كشريحة في بنية المجتمع وتنتشر.. لها زي خاص وعادات خاصة ولغة خاصة (ليس مجرد بعض كتاب أو أدباء).. وتتشكل وفق احتياجات حقيقية موجودة في المجتمع..
– مفهوم المثقف كان قد انطلق من أوروبا أساسا، وكانت معاداة الدين رد فعل منطقي لحالة الجمود التي وصل إليها المجتمع الأوروبي تحت سيطرة الكنيسة ورجال الدين..
– خصائص طبقة المثقفين في القرن 17:
اللادينية: ضد الكنيسة وموقفها ضد العلم..
النزعة القومية: ضد عالمية البابا وسيطرته، وإلزام اللاتنية على كل شعوب العالم، بدل اللغات المحلية..
مناهضة الارستقراطية والجنوح للجماهير..
– انتقال سمات المثقف الأوروبي إلى المجتمعات الأخرى: بعد أن كانت مقاومة الدين نتيجة منطقية لما كان يفرضه رجاله على المجتمع الأوروبي في العصور الوسطى فكانت اللادينية إحدى أهم صفات المثقف الأوروبي، قام المثقف الشرقي بنقل نفس الصفات إلى مجتمعه، رغم اختلاف الواقع والدين (رغم كونه في مستوى سافل جدا في مرحلة القرن الثامن والتاسع عشر، فهو أفضل بكثير من المسيحية الكاثوليكية في العصور الوسطى)..
– ”كان من ثمار مقاومة الدين في أوروبا: حرية الفكر والنضج الفكري والمدنية المزدهرة وأنواع التقدم العلمي السريع والمدهش في كل مجالات الحياة، لكن نفس هذا الأمر عندنا أي مقاومة الدين في المجتمعات الإسلامية وحتى غير الإسلامية، كانت أولى ثمارها وأسرعها وأفدحها هي تحطيم السد الذي كان يقف حائلا في وجه نفوذ الاستعمار الاقتصادي ونفوذ فلسفة الاستهلاك وغلبتها والانحطاط الفكري والانحراف وما إليه من أنواع الغزو الذي أبليت به المجتمعات الشرقية..”
– نسبية الحقائق الإجتماعية: الحقيقة في علم الاجتماع شيء وفي الفلسفة والعلوم شيء آخر. ففي الفلسفة والعلوم تكون قضية واحدة أو أمر واحد أما صحيحا وأما باطلا، فإذا كان الأمر صحيحا فهو صحيح في كل زمان ومكان.. أما في القضايا الاجتماعية فينبغي علينا أن نبحث عن عامل آخر غير الصحة والبطلان، وهو: متى تطرح القضية وأين ولماذا؟ أي زمنها وبيئتها ودوافعها.. (مثال المدرسة الفكرية التي تؤمن بالقومية والتي حررت أوروبا، نفسها كانت سببا لانقسام الدولة العثمانية وتفتتها، ونفسها التي يراها المفكر جونيه لابون حلا لتفتيت شعوب شمال أفريقيا)..
– جغرافية الكلام (جغرافية القصة): هناك كلام (عامل ما، مدرسة فكرية ما..) يصح في مكان ما (ويثمر حرية ووحدة)، لكن يكون باطلا في مكان آخر (ويثمر قضاء على الحرية وإفناء)..
– تقديس العلم عند المثقف: المثقف عندنا هم الذين يقومون بعمل فكري، وأهم ميزاتها اللادينية (لا يعتبرون ملحدين لكنهم بعيدون عن الدين ولا يهتمون به) ويؤمنون بالعلمانية (أي العلم بمعناه الخاص، وليس العام الذي يشمل أي معرفة سواء كانت دينية أو غيبية أو تطبيقية) العلم القائم على المشاهدة والاستقراء، والتجريب..
– يفسر “توينبي” كل الظواهر الاجتماعية على أساس مبدأ الهجوم والدفاع أو الأفعال وردود الأفعال.. فالمجتمع إما يكون في حالة إفراط أو تفريط، اندفاع أو ردود أفعال، تجاه فكر ما أو عمل ما.. إلى اليمين أو إلى اليسار، يغرقون في الماديات، ثم يجنحون إلى الماديات..
– توجه المثقف الأوروبي نحو المادة والمادية كان رد فعل طبيعي لموقف الكنيسة من الحياة، وللفكر السائد في المجتمع الزاهد في الدنيا ولذاتها.. وجنوحه نحو العلمانية والعلم رد فعل ضد ما الكنيسة التي كانت تعتبر فهم الطبيعة نوعا من التفاهة والترف الزائد غير المقبول.. لذا فكان توجه المثقف الأوروبي نحو العلمانية أمرا مقبولا جدا ومنطقيا في ظل ما كان يعيشه المجتمع الأوروبي في العصور الوسطى..
– العلمانية المنحرفة: لا يمكن القبول بالعلم الذي يستخدم في إطار النفع الإقتصادي فقط.. ذلك الجمود في الفكر الأوروبي الذي اقتصر على الإنتاج والإستهلاك والأطر المادية.. هذا العلم ليس علما حرا، يمكن تسميته ب” الاسكولاسية الجديدة “، فقد صار العلم أسير كهنوت القرن 18 و19، أي أسير الصناعة والرأسمالية، كما كان سابقا أسيرا في خدمة الكنيسة والكهنوت الكاثوليكي (في العصور الوسطى)..
– المثقف الأصيل والمثقف المقلد: كما رأينا أن المثقف الغربي كان قد ظهر في ظروف خاصة لمجتمعه، وما قدمه لمجتمعه كان وفقا لحاجيات وظروف تاريخية وجغرافية.. كان المثقف الشرقي شبه مسترد للحضارة، كبستاني غره شكل أشجار جاره وثمارها، فاشتراها دون أي اعتبار لأرضه ولا للطقس ولا لحاجياته من ثمار تلك الأشجار.. فكان المستفيد الأكبر هو البائع الذي يبيع أشجاره للمشتري الذي يعود كل مرة تجف فيها..
– الحضارات الأصلية والحضارات المقلدة: (البساتين الأصلية والبساتين المقلدة).. قدم أمثلة لمجتمعات حاولت تقليد الحضارات التي كانت بجوارها، كالعرب في بلاد ما بين النهرين (عرب الحيرة) مقلدين سلطان الساسانيين وبناءه وعماراته وقصوره ومظاهر الحياة في إيران.. وعرب الشام (العرب الغساسنة) الذي كانوا بجوار الحضارة الرومانية الشرقية التي كانت في تركيا وجزء من اليونان.. وأشار إلى أن المقلد غالبا ما يتجاوز الشخص الذي يقلده في المظاهر (طلبة العالم الثالث في فرنسا، عمران الكويت والمباني في دول العالم الثالث التي لا توجد حتى في الدول المتقدمة)..
– يثرب، منبع حضارة في حالة غليان: في تلك الصورة من حضارة الإيرانيين وحضارة الروم الشرقية، وما كان بينهما من عرب الحيرة والغساسنة الذين كانوا يعيشون حضارة مستوردة، كانت يثرب تجمعا بدويا من اليهود يتكون من قبيلتي الأوس والخزرج، ولم تكن هناك أي نشاطات تجارية، فكانت المدينة تعيش في قمة البساطة، حتى تحولت بعد عشر إلى خمس عشرة سنة إلى حالة غليان، وما أنتجته من فرسان وما أنتجته من من رجال دون استيراد للحضارة، ولا ترجمة للكتب ولا جلب للأساتذة ولا الحكماء..
– نظرة إلى مفكرينا: المثقفون الجدد الذين ظهروا بعد القرن السابع عشر في المجتمعات الشرقية لم يكونوا أكثر من مقلدين للمثقف الغربي، ركبوا في نفوس المجتمعات الشرقية مركب نقص جعلهم ينفون ذواتهم ويتغربون عنها نحو الحياة الأوروبية والذوق الأوروبي واللباس الأوروبي والمأكل الغربي.. عارضوا الديانة والدين كما عارض المثقف الأوروبي المسيحية الكاثوليكية، وأفرغوا الرموز والمعاني والذوات مما كانت تحمله.. كنا نملك في كل قرية أو بادية مثقفين أو ثلاثة حاملين لذوات أصيلة، لا يعني أننا كنا متقدمين، فالأصالة لا تعني التقدم، لكننا كنا على الأقل نملك ذاتا خاصة بنا، كنا نحمل “ذوات أصيلة”.. متوقفون لكننا نخيط ملابسنا، ونبني منازلنا، ونختار ألواننا وزيناتنا.. حتى ذاك الذي يدعونا إلى الأصالة، يفعل ذلك على الأغلب عندما يقابل أوروبيا حاول أن يمتلك حذاء محلي الصنع، أو بنى منزلا على الطريقة التقليدية، حتى أولئك الذين يدعوننا لعدم التقليد يفعلون ذلك تقليدا..
– مسؤولية المثقف:
المثقف شخص لا من العوام الفاقدين للوعي، ولا من العلماء والفنيين والفنانين.. يشبه في ذلك تماما الأنبياء والرسل في مجتمعاتهم.. ” إن العلماء والفنيين والفنانين يمنحون المجتمع البشري أو مجتمعهم قوة علمية بوجودهم، لكن المثقفين يعلمون المجتمع (كيفية السير) ويمنحونه الهدف”.. “إن العالم يقول {هذا الأمر هكذا} أما المثقف فيقول { لا ينبغي أن يكون الأمر هكذا بل كذلك}.. حسب فهمي فالعالم هو من يكتشف ” الكائن ” أما المثقف فيخبرنا “بما ينبغي أن يكون”.. فالعلم قوة لكن الفكر نور..
الدارس للمدارس الإجتماعية والفلسفية والحاصل على الشهادة فيها ليس أكثر من عالم في ذلك المجال يستطيع تدريس ذلك في الجامعات، فالمثقف مثقف ولو لم يدرس في الجامعات.. لذا فالمثقف في منطقة ما لا يمكنه أن يكون كذلك في مجتمه آخر، بل يعجز عن فعل أي شيء..
وأعظم مسؤوليات المفكر المثقف أن يجد جوابا لسؤال سبب الإنحطاط والتأخر وتأزم الأوضاع والبعد عن الحضارة، أن يبحث عن السبب الحقيقي الأساسي، ثم يقدم ذلك لمجتمعه ويرسم أمامه طريق الخروج من ذلك المأزق..
وجود تناقض جدلي داخل مجتمع ما (بين الفقر والغنى مثلا) لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يسبب حركيّة ما.. لا يحدث التغيير في المجتمع إلا إذا انتقلت تلك التناقضات إلى وعي الناس.. فوجود الفقر لا يسبب الحركة، لكن الإحساس بالفقر هو الذي يسببها..
من هنا فإن مسؤولية المثقف “القيام بنقل التناقضات الموجودة داخل المجتمع إلى أحاسيس أفراد هذا المجتمع ووعيهم”، ومن ثم يقوم المجتمع بحركته بنفسه..
إذا أردنا المقارنة مع التاريخ الأوروبي فنحن نعيش في مرحلة ما بعد القرون الوسطى وبداية النهضة.. أما اقتصاديا فنعيش في نظام بورجوازي يعتمد على السوق أساسا بدل البنوك.. أما نمطنا الثقافي فهو النمط الديني الإسلامي.. وعلى المثقف أن يكون على علم كامل بالنمط القافي حتى يمتلك صورة ناصعة عن روح مجتمعه وخصائصه وتاريخه ومثله الأخلاقية ونقاطه الحساسة..
يجب على المثقف أن يكون عالما بالإسلام لا محالة، ويجب عليه أن يعلم أن إسلام اليوم الذي يعيشه الناس ليس إسلاما حقيقيا، ولا يمكن معاملته في أي حال من الأحوال كالمسيحية أو كأي دين آخر..
المجتمع الإسلامي يحتاج لبروتستانتية إسلامية مثل البروتستانتية المسيحية التي وقفت ضد قوى الانحطاط، وقامت باستخراج أفكار ثورية من مسيح السلام والوئام ضد القمع ، على خلاف الإسلام الذي يملك عوامل متراكمة من العناصر المليئة بالحركة والثورة والعالمية.. وتاريخا مليئا بالنضال ضد الظلم والجور..
– نقطة انطلاق المثقف:
+ استخراج الكنوز الثقافية —-> تنقيتها.. (من عوامل انحطاط إلى عوامل نهوض)..
+ التناقضات المجتمعية من باطن المجتمع —> إلى وعيه.. عن طريق الفن، الكتابة، المحاضرات..
+ عقد جسر بين جزيرة أهل الفكر —> وشاطئ الناس..
+ نزع سلاح الدين من الأيدي التي سيطرت عليه زورا..
+ القيام بنهضة دينية، وتحديد الهوية الإنسانية والتاريخية والإجتماعية في مواجهة الهجوم الثقافي للغرب..
+ أخيرا، تأسيس حركة “بروتيستانتية إسلامية” تبدل الروح التقليدية الاستسلامية المخدرة للدين الموجود عند الجماهير، إلى روح اجتهادية واندفاعية واعتراضية ونقدية..
“بعض المجتمعات تعيش في القرون الوسطى، بعضها يعيش في القرن التاسع، والبعض يعيش في فترة التوحش، والبعض الآخر يعيش في بداية عصر النهضة من القرون الوسطى إلى القرون الحديثة.
بناء على هذا، يجب في البدء اكتشاف قرننا، ومن ثم نتمكن من التعلم من مثقفي القرن الذي يشابه قرننا في أوروبا”
“ولو ذهبت إلى السوق ورأيت أنهم لم يعرفوني، فأنا المحكوم، لا السوقي. هو لم يحمل رسالة أنا أحمل رسالة، أنا المسؤول، هو لم يكن مسؤولا”
مسؤولية المثقف ليست قيادة المجتمع سياسيا، فهو أفشل من قد يفعل.. المثقف مسؤوليته توعية أوساط المجتمع التي ينهض منها الأبطال والقادة الجديرون يالقيادة حتى على المثقفين أنفسهم..
“إذا لم يكن الشعور بالفقر موجودا لا يكون الفقر نفسه سببا لليقظة.. وعندما يُتقبل فقره فلا تضاد هناك، التضاد يوجد عندما يرفض الفقير فقره. بناء على هذا، فإن تمرد الفقير، انتفاضته، وتغيّره، لم يكن وليد الفقر وإنما هو وليد وعيه بالفقر”