حاولت أن أدق الباب بشكل لطيف، كانت منشغلة بحاسوبها الموضوعِ على جنب.. ألقت علي نظرة خاطفة، عرفتني وعرفت من أكون ولماذا قدمت لها، رغم أن الأحداث التي جمعتنا من قبل ذلك كانت قليلة جدا، ربما يكون آخرها هو لقائي بها خارجا في أول يوم وطأت فيه قدماي أرض الكلية، قبل ثلاث سنوات كاملة.. دلتني على مكتب التسجيلات حينها، وأخبرتني أنها تعمل على مستوى Bureau de Scolarité وأنها في الخدمة إذا كنت بحاجة لأي أمر.. لم أتعامل معها بعد ذلك لقلة تعاملي مع الإدارة، وربما كانت أول حاجة لي عندها، هو ما جعلني أدق بابها صباح اليوم.. بعد نظرة خاطفة، تناولَتْ ثلاث ملفات كانت أمامها، قلبَتها بشكل سريع، ثم دفَعَت لي ملفي على المكتب، لتعود نحو جهاز حاسوبها مرة أخرى، منشغلة به أو محاوِلةً التظاهر بذلك.. لا يبدو أنها رأتني مرة أخرى بعد النظرة الفاحصة السريعة، ولا أظنها رغبت في ذلك.. في تلك اللحظات بدوت كأني لم أصدق، دقائق قليلة من خروجي من المكتب إلى لقاء صديقاي أسفل المبنى لأخبرهم بجاهزية ملفاتهم في الأعلى، كانت بمثابة سنين داخل عقلي.. ما كنت أظنه مستحيلا ولا أمل فيه قبل يومين إلى ثلاثة أصبح واقعا أمام عيناي.. شهران وأنا أسعى من أجل ما أحمله الآن بين يداي، استغرقتني اللحظة، وأغرقتني في تفاصيل تفاصيلها، تذكرت كيف تتحول الحقوق البسيطة والمكفولة منطقيا وقانونا في هذه البلاد إلى أحلام ننفد من أجلها، وننفد كل طاقاتنا وهمّنا واهتمامنا وجهدنا فيها، وكيف يتفنن أصحاب المكاتب، وحاملو الأختام في إيجاد أعذار كي تعود يوم غد.. “ولّي غدوة” أصبحت مقياسا للبيروقراطي الناجح، كلما تفننت فيها، واستعملتها بشكل مبرهن، كلما ارتفع شأنك في أعين البيروقراطيين.. وتذكرت كيف تحول دور وواجب أصحاب المكاتب من عمال وخدّام في تصرف الشعب إلى عمال ضدهم وعليهم.. لم أكد أصل أسفل المبنى، وأجتاز الدُّرُج المعدودة، إلا وقد جال فكري وصال، واجتثني من اللحظة، ليحييني لحظات أطول أمدا، ممزوجة بالألم بما فات وكيف فات، وأمل بما سيأتي قادم الأيام.. لم يصدق صديقاي ما أحمله بين يدي، حتى هرعا لحمل آخر آثارهما في تلك البقعة.. أخذنا بعض الصور كمحاولة لتخليد تلك اللحظات بدبابيس في خط الزمن الجاري الذي لا ينتظر.. لم أتوقع أن سعي الشهرين الكاملين، سيمتد ليوم كامل، بسبب موظفة بسيطة كانت تحمل خاتم ” Chef de département “.. كانت تعلم أننا بانتظارها وانتظار خاتمها السخيف، لكنها فضلت مغادرة مكتبها على 11 صباحا، لتعود على 9 من صباح اليوم الموالي.. كنت أعيش الثانية بالثانية، وأسير على خيوط الإحتمالات والتوقعات منذ أول خطوة خطوتها من أجل مكان أفضل للدراسة.. انتهت تلك الفترة بعد عناء طويل وجهد جسدي ونفسي مديد، لم يكن يعلمه ولا يعلم تفاصيله إلا أقرب الأقرباء..
كانت لحظات فاصلة، لقادم سيكون مختلفا جدا.. أغادر الجامعة بخطوات أرجل لم تصدق الأمر ولم تعه بعد كاملا.. لم أكن واعيا بتلك اللحظات بشكل كاف، لم أكن أعي بشكل واضح أن ما أراه الآن قد لا أراه مجددا إلا في مناسبات نادرة..
الأغواط تشبثت بشيء ما بداخلي.. أحببتها وأحببت زيارتها فقط من أجل ما وجدته هناك من جمال الأشخاص.. من أجل ما ارتسم على قلبي صورة ناصعة تبعث على البهجة.. أصدقاء الكلية الإستثنائيون جدا، أصدقاء الكتاب، أصدقاء الإقامة، رضوان، الحاج الناصر، إسلام، أسامة، حسام وآخرون.. ما جمعني بهم كان مميزا بشكل لا يصدق.. سأصف بعض ذلك الجمال..
في اليوم 22 من أكتوبر، عيد ميلادي، يومين قبل الحصول على خبر اليقين، وحمل آخر الوثائق من جامعة الأغواط.. كنت مضطربا بشكل كبير.. كنت أعيش الإضطراب والاهتزاز الداخلي أكثر من مرة في الشهرين السابقين في مراحل ومواقف مختلفة.. لكن الأمر كان مختلفا هذه المرة كثيرا.. كنت في آخر مراحل آخر محاولة، إما نعم وإما لا.. غدا يوم الإختبار، لم أحضر من مجموع ست أسابيع إلا أسبوعا واحدا، لذا كانت احتمالية منعي من اجتياز الاختبار أمرا واردا جدا.. غيابي كان بسبب كل الإجراءات والسفريات التي عشتها قبل ذلك في سبيل التحويل.. في ذلك اليوم اتصل بي صديق وتواعدنا في الفترة بين الصبيحة والأمسية، لأن أوقات فتح الإدارة يعني جلوسي أمام بابها.. تواعدنا لنلتقي بمكتبة البشير الإبراهيمي المقابلة للجامعة.. عندما التقيته التحق بنا أصدقاء آخرون.. وبعد حديث متفرق، قررت أن أغادر حتى أواصل اعتصامي أمام باب الإدارة.. ونحن نهم بالخروج، برفقة حسام يوسف، ورانيا.. دعتنا رانيا لإلقاء نظرة على مريم في قاعة على جنب.. وبينما أجتاز عتبة الباب إذا الأمر لم يكن مجرد إلقاء نظرة، ذلك أن أغنية عيد الميلاد قد انطلقت بالفعل على أفواههم.. لم أصدق بعد ما أرى، كان ربما أول احتفال لي بميلادي مذ ولدت، فقد كان في العادة يوما عاديا لا يختلف كثيرا عن غيره.. لم أكن أهتم بالأمر كثيرا.. حصلت على بعض الكتب بمناسبة الحفلة المصغرة، وكنت أحمل بعض الكتب في حقيبتي ظهري هدية لحسام ورانيا، كأجمل أصدقاء كتب عرفتهم هناك.. كانت لحظات جميلة.. (كعك الحفل كان كبيرا بشكل لا يصدق ههه.. mais c’est le geste qui se compte كما علق حسام)..
رانيا التي حضّرت لذلك لم تكن تعلم أني أمر بآخر أيامي هناك.. لم تكن تعلم أن حفلة الميلاد التي خططت لها وبيتت لها ستتحول إلى حفل وداع، وداع غير محسوم بعد.. دودة كتب كما ينادونها، هادئة.. من أعز من عرفتني بهم الأغواط، وعرفني بهم الكتاب.. كانت قد حضرت أول لقاء لتنوين الأغواط، قبل سنتين تقريبا بعد أن طلبت منها أن تفعل، وتلقي نصا من نصوص العمري التي ينشرها كل عام بمناسبة المولد النبوي الشريف.. فلاقت ما لاقت من معارضة ونقاش شديد، وأخذ ورد من الحاضرين.. أعتذر عن ذلك حقا ^^
أما عن حسام الدين فقد جاد علي بجلستين وديتين فكريتين في آخر ليلتين لي في الإقامة.. لا أعلم لِمَ فعل ذلك بالضبط.. كانت استثنائيتين لدرجة أني لم أحظى بمثلهما منذ أن تعرفت عليه، ومنذ أن علمت أني أشاركه الإقامة قبل أكثر من عام.. لم أكن أعلم بشكل واضح أنهما آخر ليلتين، لكن حدس الحسام كان قويا جدا.. جلستين جعلتا ختام أيامي هنالك مِسكا.. سهرنا لوقت متأخر جدا من الليل مع كامل الشلة.. تناولنا الكثير عن المجتمعات والأفكار، عن الانغلاق والانفتاح على الآخر، عن مرحلة البناء الداخلي ومرحلة نشر الفكرة.. عن الانتقال من الإيمان بفكرة إلى الإيمان بنقيضها.. خضنا في التاريخ وعشنا واقعنا.. كانت عناوين الكتب والأفلام حاضرة داخل النقاش بلا شك.. والسياسة وخاجقشي وقضيته كذلك.. كان لقاء شيقا وغزيرا جدا، محفزا للعقل، وباعثا على التساؤل ومحاولة الفهم والوعي أكثر.. أتأسف كثيرا لما لم أستفده طيلة إقامتي هناك.. فمغنية الحي يجب أن تطربنا، كما يخبرنا بذلك دائما..
الناصر .. عضدي الأيمن بلا منازع.. ربما كان أكثر الأشخاص الذين حز في قلبي فراقهم، لدرجة أني خفت أن أخبره بخبر قبول تحويلنا.. أعلم أنه قد يفرح بالأمر.. لكنه سيحزن وسأحزن لذلك.. هكذا هي لحظات فراق من يعيشون في أعماق القلوب.. عندما تتناقض رغبتنا في قربنا منهم، برغبتنا وحبنا للخير والأفضل لهم.. كان المحاسب، المحامي، الطباخ، المفاوض، مسؤول حملتي الإنتخابية.. لم يكن مجرد صديق عادي.. ولم يكن الابتعاد عنه، وعن الحديث معه، وعن النقاشات التي تجمعنا حول مجتمعنا أمرا عاديا ولا سهلا.. لم أجد ولن أجد من يعوضه.. ولا أظنه سيجد من يملأ مكاني هناك.. أعتذر عن الأمر حقا.. لكنها الحياة ودروبها..
متأخرا بدقيقة اجتزت باب قاعة الاختبار.. بينما كان الجميع يعيشون لحظات الامتحان واضطراباتها.. كنت أعيش لحظات مختلفة جدا، لا أعلم كيف أصفها، لم تكن واضحة أساسا، كمشاعر لم أعشها من قبل في حياتي.. منذ الإبتدائية كنت مجتهدا بشكل ما، ولحظات الاختبار كانت متشابهة عبر السنين بشكل لا يصدق.. لم أدرس شيئا من المادة، ولا أعلم منها غير اسمها.. كان اختبارا مختلفا تماما عما اجتزت طوال حياتي.. كنت سأواجه ورقة الإختبار دون أن اطلع على أي درس.. اخترت إحدى الطاولات وجلست مسرعا.. تظاهرت بجاهزيتي الكاملة للاجتياز.. لم تمر أكثر من دقيقة، حتى وصل إلي الأستاذ حامل ورقة توقيع الحضور.. بطرفة عين لاحظت ملاحظة مكتوبة أمام اسمي في القائمة..
سألني: أين اسمك؟
-هذا هو..
-وقّع أمامه، وستقدم نائبة العميد لتخبركم بما يجب..
كانت ملاحظة ما مكتوبة بالأحمر أمام اسمي.. Exclut.. كنت مطرودا من المادة بسبب عدد الغيابات.. لم تتأخر نائبة العميد كثيرا، حتى تقدمت لتلقي علينا محاضرتها في الأخلاق وقانون الغيابات لتبرير ما فعلته بخصوص الأشخاص الغائبين.. كنت مطرودا بشكل واضح.. أنا برفقة أربعة أو خمسة آخرين.. أومأ إلي الأستاذ من بعيد برأسه.. كان يشير لي أن أغادر القاعة.. صديقي الذي كان قد تغيب كل الغيابات التي غبتها، وحضر الحصص التي حضرتها، كان قد اعتبر طالبا صالحا كمن لم يتغيب أي حصة منذ أول العام.. كان “الزهر” واقفا لجنبه بشكل لا يصدق.. استقبلت رسالة على هاتفي منه يخبرني أن أمر على طاولته، حتى أحمل عنه ملف التحويل لإيداعه في الإدارة..
كان ذلك يوم 24 من أكتوبر.. كنت قد انطلقت في الصباح باكرا نحو الإدارة، استجابة لموعد “ولّي غدوة”.. انتظرت مطولا، حتى اكتشفت أن المسؤول الذي أنتظره (نائبة العميد) إنما يتواجد مع مرضاه حاليا بالمستشفى، كان علي أن أنتظر قدومه في كل الأحوال.. كنت قد سألته البارحة: ومتى سأعود غدا؟ على الثامنة مثلا ! كان رده ببساطة: je sais pas !.. صعقت بإجابته، حتى ظننتني مخطئا في السؤال.. حتى اتضح لي يوم غد، أنه لم يكن في برنامجه الحضور صباح ذلك اليوم من الأساس.. انتظرت، وكان موعد الإختبار على الساعة الواحدة زوالا من ذلك اليوم.. كنت أتخيل تقريبا السيناريو الذي سيكون عند دخولي القاعة.. وكان تماما كما توقعه.. باستثناء الحظ الذي توقف بجانب صديقي مساء ذلك اليوم..
خرجت من القاعة، بعد أن مررت بطاولة صديقي لأحمل عنه الملف.. التقيت في طريقي للخروج أحد أصدقائي الذين كانت الكلمة الحمراء موقعة أمام اسمهم كذلك.. شاركتهم الكثير من الأيام العصيبة، أيام الانتظار وعدم اليقين قبل ذلك.. حاولت أن أشاركه تلك اللحظات العصيبة.. جلسنا في زاوية وحكينا مطولا، أو هكذا خيّل لي في تلك اللحظات.. حتى قدم إلي أحد الأصدقاء ليخبرني أن ” نائبة العميد ” تلك التي انتظرتها منذ الثامنة صباحا تطلب مني أن أودع ملفي وملف صديقي عندها.. توجهت نحو مكتبها مسرعا، حييتها ومع معها، “اه، تم طردك من الاختبار دون صديقك “.. ابتسمت موافقا.. ودعت الملف هناك، ثم أخبرتني أَن ” ولّي غدوة “..
جمعت أغراضي، حضرت حقائبي وأحكمت إغلاقها.. وقفت خارج الغرفة وأمسكت يدي ببابها.. تلك الجدران والألواح تربطني بها بشكل غريب.. ثلاث سنوات كاملة لم أغادرها ولم أغيرها.. عشت فيها كل لحظاتي.. عشت فيها كل أنواع المزاج، عشت الحزن ولحظات الكآبة.. عشت الفرح والضحكات.. عشت فيها اللامعنى والظلام، وعشت لحظات الفتح والنشوة.. كل تقلباتي النفسية، صاحبتني في بدايات الأعوام، لحظات ما قبل الإختبار، نشوة ما بعد الإختبار، لحظات الوداع، كل ذلك عشته أكثر من مرة هناك.. رافقت فيها ثلاث أصدقاء خلال تلك السنوات الثلاثة.. يخيل لي أني أحفظ تفاصيلها وزواياها كما تحفظني وتحفظ كل أسراري وكل ما مر بها من أحداث.. آوت كثيرا وحملت أكثر.. غيرت ترتيب أسرتها أكثر مرة.. حاولت قبل العام الماضي أن أشكل على جدارها كلمة “smile” باستعمال ملصقات كنت أكتب فيها بعض الخواطر في الفترة التي ابتعدت فيها عن هذا العالم الأزرق لثلاثة أشهر، لم تكتمل الكلمة ولم تكتمل البسمة.. تلك الغرفة التي لم يدخل إليها أي غريب إلا في هذه السنة.. كأنها تعلم أني سأغادرها.. لم يكن الغريب رحيما، تم سرقة كل ما يمكن سرقته منها.. حتى النافذة الخشبية الخارجية تم الاستيلاء عليها.. الرفوف الخشبية، المعلاق الخشبي، المصباح، قفل الباب، “مطبخي الصغير”، حتى “تاشكارت ن تشكارين” تلك التي ستمدك بالأكياس في أي وقت تمد يدك داخلها، حتى هي تم أخذها.. حزنت للأمر كثيرا، لكن ما العمل.. فالسارق قد يبرر سرقته بأنه قد سُرِق، ولم يكن بيده إلا أن يقوم بالمثل.. هكذا فالمنطق قد تم وأده في مثل تلك العوالم.. أحاول أن أتركه غالبا عند حارس الباب قبل الولوج داخلها.. فالمكان الذي يخبرك فيه شخص ما “إذا ما عجبكش الغنا لي راني دايرو بدل شمبرتك” يحرم فيه استعمال المنطق مهما كان الداعي.. كنت قد أصلحت ما أمكنني إصلاحه منها لمكوثي فيها لمدة حوالي أسبوع إلى أسبوعين في بداية هذه السنة.. سحبت الباب، فإذا به يمحي عن ناظري منظر الغرفة شيئا فشيئا.. قفلت بابها، وقدمت مفتاح الباب للشخص الذي سينتقل إليها بعدي.. كان حاضرا معي في آخر اللحظات.. وكان سينقلني بعربته إلى مدينتي لإلقاء آخر النظرات عليها.. قبل الإنتقال إلى الموقع الجديد والتجربة الجديدة..
كان قد رافقني خلال سنتي الأولى فيها صديقي “إسلام”.. هذا الشخص أجد صعوبة كبيرة في وصفه.. ليس صديقا عاديا.. وقد لا تعني هذه الكلمة أي شيء مقابل ما تعنيه علاقتي به.. قد تمتد معرفتي به إلى سنوات المتوسط.. منذ الأولى ثانوي أصبح يدرس معي في نفس القسم.. ومزال إلى حد اليوم يفعل.. لولا أن système modulaire قد فرق بيننا هذا العام لقلت أننا شخصان نعيش تجربة ” دراسية” متطابقة بإسمين مختلفين.. جمعنا الكثير ومرت بعلاقاتنا كل فصول السنة.. نعيش سنتنا السابعة منذ اجتماعنا في نفس القسم، والعاشرة أو الحادية عشر منذ عرفت أن في هذه الحياة شخص ما يسمى “إسلاما”.. اهتماماتنا مختلفة جدا.. خباش يفوقني في ذلك بمراحل.. لا يهتم كثيرا بالكتب الفلسفية، ويضحك على نفسه بقهقهة عندما يتذكر أنه كان يعجب يوما وينبهر بما يقوله أصحاب التنمية البشرية.. أعلم تماما تلك اللحظات التي لا يعي فيها أي شيء من كلامي، وأضطر لأعيده كاملا فيما بعد كأني لم أخبره بشيء.. يبهرني أحيانا بسرعة تعامله العقلي وتحليله للمواقف وردة فعله الذكية، بينما أكون غارقا في فهم ما حصل والبحث عن موقف مناسب.. وبالمقابل ببهرني أحيانا بثقل فهمه للإشارات السريعة، وبثقل فهمه للمنشورات الفيسبوكية إلا بعد قراءة وإعادة.. لا أدري إن كان سيقرأ منشوري هذا أم لا على كل حال.. لكنه شخص أشقر جميل “واقعا”، ورائع بالمختصر..
في السنة الثانية رافقني شخص استثنائي جدا.. قصة حياته كاملة يجب أن تكتب على شكل رواية كوميدية من 1000 صفحة.. رغم أنه يعيش بيننا لكنه يعيش حياة مليئة بالأكشن.. لا أدري أهو من يضع نفسه في تلك المواقف.. أم أنها تنجذب إليه لشيء فيه.. خباش جدا جدا بشكل لا يصدق.. خط رائع، بالعربية والفرنسية.. وصفاته الطبية التي سيكتبها لمرضاه مستقبلا قد تحوز لاحقا على جائزة “أجمل خط طبيب في العالم”.. أسامة، كان يجب أن يترك بصمته في تلك الغرفة، كعادته دائما.. بداية من الرف الذي ثبته على الجدار، إلى الرفوف التي أضافها إلى خزانة الملابس، إلى الثلاجة الصغيرة، إلى الوجبات اللذيذة التي يطبخها، أصبحت الغرفة بيتا مصغرا، لا غرفة في إقامة جامعية بائسة.. لا أعرف كيف أصف شخصيته، غريب جدا.. يجتمع فيه ما قد يبدو لك متناقضا.. اجتماعي كوميدي لكنه “ماجور” وخباش.. لا أدري من سيفوقه في الشغف الدراسي والبحث.. رياضي نشيط لكنه يأكل “بسلامتو”.. جميل من الداخل والخارج بكل اختصار.. ” جمال على بعضو يعني “..
بعد عامين من مرافقة أصدقاء أطباء، كانت السنة الثالثة مختلفة نوعا ما.. كان المرافق في تلك السنة حبيبي رضوان.. ذاك الذي أخبروه أنه سيتخرج أستاذا من المدرسة العليا، لكنه اختار كلمته الخاصة.. ورسم طريقه المميز بنفسه.. رضوان جميل الروح والقلب كنا نضحك بشكل هيستيري على أشياء قد تبدو لك غبية بشكل ما.. قد يقصدك طالبا الدعم للإقدام على خطوة ما.. كان اقتراح صورة ” البرومو” ناجحا بشكل ما ^^ .. وقد بدا بارعا جدا وهو يغطي احتفال آخر السنة الخاص بقسمنا.. كيف لا وصورة حسابي الآن من التقاطه. (وآلة صاحبها قاسم طبعا ^^).. رغم ذلك التردد الذي يبدو عليه في الإقدام على بعض الأمور، كان يصنع خطواته في صمت وكتمان رهيب جدا.. بينما كان يستيقظ العام الماضي على شمس ساطعة، أو غبار قد غطى الأجواء، أصبح يستيقظ اليوم على شوارع مغطاة بالأبيض، وأشجار قد عرّاها الشتاء.. ويستيقظ على جمال الروسيّين والروسيّات ^^.. أعلم أنك تعيش على خط الشوق، وسنعيش عليه جميعا حتى يجمعنا الله بعد سنتين ربما.. إلى ذلك الحين ستتكفل الصور والذكريات بإخماد نار الشوق.. وربما إشعالها وإذكائها أكثر، من يدري !.. عشنا أنا ورضوان وناصر ثلاثيا استثنائيا قد لا أحظى بمثله مرة أخرى في هذه الحياة.. ثلاثيا مدتني بهم الأغواط.. ورزقنيهم الله.. فكيف بعد كل هذا لا تبقى تلك الأرض الطيبة متشبثة بالقلب !.. تشبثت ولا أظنها تنفك عنه قريبا..
( يتبع بأجزاء أخرى بتعديل هذه المقالة وإضافة الأجزاء الجديدة )
لست أدري كيف التقيت هذه التدوينه . لا يهم . العنوان جذبني كثييييرا لأنني أكره الأغواط ! ، تأثرت جدا بكلماتك كلمة كلمة أتمنى أن تجد في جامعتك الجديدة المكان الأفضل . أنا حاليا أدرس في المدرسة العليا بالأغواط سنه أولى ولم أتعود بعد لذلك أتمنى أن أستمتع وأحزن حقا لمغادرتها . أسلوبك جميل جدا إستمر بالتدوين. موفق.
إعجابLiked by 1 person
لدي الكثير من الذكريات الحزينة هناك في الكلية وفي الإقامة الجامعية.. ما جعلني أحب تلك البقعة بالأساس هم الناس الذين التقيت بهم وتعرفت عليهم هناك ولازالوا لحد أروع الأشخاص الذين أهدتني إياهم الحياة.. اصنعي ذكرياتك بالاختلاط بأشخاص جدد، بحضور المحاضرات والفعاليات والنشاطات الجادة التي قد تدفعك أكثر.. الأحداث هي التي تربطنا بالأرض..
إعجابإعجاب