روح مهمومة وكلمات مبعثرة !

في قطار بين مدينتين غرقت فيهما واستنفذتا كل روحي.. متكِئًا على نافذة ذات زجاجة مضببة موسخة وسخ البقعة التي أسير فيها ويسير فيها القطار، ووسخ الواقع الذي رضيت به، أو اعتقدت أني أصبر عليه لأَجَل.. أستمع إلى آخر أغنيتين قمت بتنزيلهما.. كالعادة، فكل أغنية جديدة أحببتها سأعيدها مرارا وتكرارا حتى أمقتها، أو يصبح لحنها لحنا عاديا مبتذلا لأسعى باحثا عن مقاطع موسيقية أخرى أجمل..

منذ أكثر من شهر أو يزيد.. كنت بين تلك المدينتين. إن لم أكن بينهما جسديا، ففكري عالق غارق في المسافة بينهما، ينتقل ذهابا وإيابا، حتى بدت مظاهر وملامح الإعياء تظهر عليه.. لفظتني الأولى منذ أولى محاولاتِ توددي وتذللي بين يديها.. دعوت الله كثيرا، أو هكذا أظن؛ فالكثرة أمر نسبي جدا، وسعيت في طريق الأسباب وسبيلها إلى كل ما اعتقدت أنه متاح بين يدي، لكنها رفضتني جملة وتفصيلا.. توددت إليها ذاك أن إصرارا ما بداخلي وشيئا أشبه بالقسم على ألا أعود من حيث أتيت، كانا قد وقفا عائقا أمام أي خطوة إلى الوراء.. لا شيء سوى التقدم للأمام..

أما الثانية فكانت عجيبة غريبة غرابة الشعب الذي أعيش بين جنباته.. وغرابة المنطق الذي يسيّر تفاصيل حياة الناس هنا.. قد لا يسمى منطقا، فالمنطق أمر ثابت وأدوات بينة يشترك فيها الناس، أما ما يقود الأمور هنا فهو مختلف تماما.. لا أدري ما أسميه، قد يكون أي شيء غير المنطق، غيرُ ثابت ولا يمكن التنبؤُ به.. قد يكون العبثية والفوضى، الممزوجة بالخبث والمصالح، بقليل من “أنا وبعدي الطوفان”، مع الكثير من “السياسة”.. تلك الكلمة التي تعني في القاموس رعاية المصالح، وتعني في بقعتي هذه، قضاء المصالح.. كانت عجيبة بحيث استقبلتني بحفاوة وفرشت الطريق بالبساط الأحمر والورود التي استقتها من كنيتها.. لكنها لم تكن متأكدة من قرارها تماما بعد.. كتومة ثقيلة بشكل مزعج.. ولمَّا تلقِ كل ما في جعبتها بعدُ..

أنام على خبر مفجع، وأستيقظ على خبر أفجع منه.. أنا الذي كنت أتخذ النوم مهربا من كل هم، فالاستيقاظ بذهن صافٍ كانت نعمة أُحسَد عليها، لكني فقدت حتى سلاحي هذا.. فلم يعد النوم يبعث على الراحة، ولا الاستيقاظ والانطلاق في البحث عن آخر المستجدات يشي بوجود أمل ما..

أمذنب أنا؟.. مذنب نعم، ومتهم بتهمة لم يكن لك يد فيها، لكنها ملتصقة بك، لا تنفك.. ذنبك أنك حاولت أن تتميّز وتدرس جيدا وأنت ابن صحراء.. حاولت وأنت ابن “باقي أرجاء الوطن”.. وبما أنك كذلك فستدرس هناك وتكبر هناك ولا فرار من هناك.. لا تملك حرية القرار.. هناك مصالح سياسية وأخرى شخصية أكبر منك بكثير، وأكبر من أحلامك وطموحاتك.. أكبر من آمالك في تكوين يرضيك ومن أحلامك في خدمةٍ إنسانيةٍ أو فعلِ خيرٍ باحترافية وإحسان.. أصلا ليس ذلك إلَّا ترّهات من عالم المُثل في قاموس السياسة والمصالح القذر.. أولئك الذين يفعلون ذلك، ولدوا قبلك ويسعون في سبيلهم ولا يهمهم عدد الضحايا في جنبات الطريق التي يسعون فيها..

في إحدى الكراسي أمام إحدى الجامعات، كان ثقب أسود ما يقترب مني أكثر فأكثر ويبتلعني ويمتصني شيئا فشيئا.. كل من أعرفه من أصدقائي، المدينة التي رجوت الله خروجا منها، وتلك اللتين طالبتهما باللجوء، كلهم قد انطلقوا في سنة جديدة، وقد بقيت ضائعا بينهم.. بدأ شعوري بمرور الزمن ينخفض شيئا فشيئا.. أخبرت أحدهم أن “مورالي راه لاصق فالارض”.. فكان بعد ذلك قنديلا من قناديل الظلمة كما كان دائما.. حاول وحاول.. لكن هالة الكآبة التي تحيط بي كانت أكبر بشكل لا يصدق..

أخبرني أعزّ الملهمين حولي “أن الحياة في جوهرها سلسلة غير منتهية من المشاكل.. ليس حل إحدى تلك المشاكل إلا بداية للمشكلة التي تليها”.. وبأن “لا تأمل في حياة من غير مشاكل.. بدلا من ذلك تَمَنَّ لنفسك حياة فيها مشاكل من النوع الجيد”.. فأطرقت مفكرا.. مشاكلي من النوع الذي لا يعد مشكلا أصلا في بقاع من بقاع هذه الأرض.. في هذه الأرض يعيش أناس يتفننون في خلق المشاكل.. ويتفننون في تعقيدها.. وكل من أوتي شبرا من سلطة ما، إلا وانطلق في حبكها.. يبدو أن مرضا نفسيا ما يجتاحنا، نتفنن في العوج، ونتفنن في إنشاء العراقيل أمام كل ساع.. فبينما يراودك شعور بأن أمرا ما قد بلغ سفالة لا هبوط بعدها، سيبهرك الجزائري بشيء ما أوضع منه..

بدأت أفكر في أرض كهذه.. أيمكنني أن أخسر فيها أكثر مما خسرته من سنين عمري ومن طاقة فكري!! .. تلك الطاقة التي كنت لأصرفها في أمور أخرى أهم لي وللإنسانية لو أني أعيش في بقعة أخرى من أرض الله.. ذنبي أني ولدت في الجزائر، بل وفي صحرائها فالعذاب هنالك أشد.. وذنبي أني ولدت في زمن قرر فيه حفنة أغبياء سياسيين إنشاء كليات في الصحراء بدعوى “رانا نتهلاو فيكم”، في واقع وأرضية وظروف لا تصلح للأمر أساسا.. بل ويتعدى الأمر إلى أن يقفوا عائقا ومطبا أمام من رغب لنفسه تكوينا أفضل وأرقى..

” لكن السؤال المؤرق فعلا، هل ما أفعله هو السعي “بكل ما أوتيت من قوة” ؟.. وهل بلغت درجة “ما استطعتم”؟.. تلك التي توحي بوجوب الإتيان بالحد الأقصى من القدرة والاستطاعة.. “

أفقد الزمن آلاف المرات في اليوم.. والأمل أضعاف ذلك مرات ومرات.. وأزداد يقينا بعد يقين أن البقاء هنا قد يكون من صميم الرضا بالواقع.. والرضا بالواقع ذنب في حق النفس في عقيدتي، وذنب في حق البشرية جمعاء.. ذاك الرضا الذي يصاحبه سكون وقبول بما هو موجود.. ذاك الذي يسميه قومي ب”الله غالب”.. عندما تغلبنا أنفسنا بكسلها ونرضى بما كُتب لنا أساسا نطلق تنهيدتنا.. ” الله غالب “.. عندما نجد أنفسنا في بداية الطريق التي وضعنا الله فيها كي ننطلق، نجلس على الهامش لنقول ” الله غالب “، علينا أن نصبر..

يبدو أن نفوسنا هي الغالب وشيطاننا هو الأغلب.. نتقن الجلوس وتمثيل دور “الصابر” الذي لا يعد كذلك أساسا.. إنما الصبر كان على الدوام صبرا على الطريق وعواقبه.. و”الله غالب” كان يجب أن نقولها ونحن نسعى، أن نقولها ونحن نتصبب عرقا.. أن نقولها ونحن نقضي أشواط الطريق.. هل انطلقت في طريقي بالفعل؟.. هل علي أن “أرضى بالواقع” و”أصبر”.. أم أن ما فعلته لم يكن إلا بداية الطريق.. علي أن أسعى ولا شك، لكن السؤال المؤرق فعلا، هل ما أفعله هو السعي “بكل ما أوتيت من قوة” ؟.. وهل بلغت درجة “ما استطعتم”؟.. تلك التي توحي بوجوب الإتيان بالحد الأقصى من القدرة والاستطاعة..

ستتكفل الأيام القادمة بكشف ما ينتظرني لاحقا.. وسأسعى لأتفاعل مع الأمر إلى بلوغ درجة “ما استطعتم”.. أعتقد أن ما نلاقيه لن يكون إلا لخير ما.. ممزوج ببعض آثار أخطائنا وهفواتنا..


يا رفيق.. ربما أكون قد شوشت عليك بَوْحي، وأنا أقفز من جانب لآخر.. لكن ما العمل والرأس يحمل الكثير مما يطاق وما لا يطاق.. والهم أكبر من أن تحويه كلمة أو اثنيتين.. صديقي، إن كنت بعد كل هذا الطول، قد بلغت هذه الكلمات، فأعتقد أنك نادر بشكل ما.. أتمنى لك كل الخير، تمنى لي بالمثل، وادعو لي عن ظهر الغيب..

دمت بخير دائما ❤

” إن الحياة في جوهرها سلسلة غير منتهية من المشاكل.. ليس حل إحدى تلك المشاكل إلا بداية للمشكلة التي تليها” ملهمي ❤

الإعلان

5 Comments اضافة لك

  1. Rostom 3adjrod كتب:

    بارك الله فيكم و سدد خطاكم

    Liked by 1 person

    1. عبد المجيد الشيخ بالحاج كتب:

      وفيكم بارك ووفقكم لكل خير

      إعجاب

  2. Mustafa abusara كتب:

    أتعلم يا شاطر ، بقدر ما يستحسن التفرغ لقراءة المقال يستحسن أيضا التفرغ للتعليق عليه ( التفرغ= تكون ألاز 😊 ) ..
    كان يمكن أن يقرأ هذا المقال في القطار الذي بدأت به حديثك عن قطار الحياة ، أبشرك أنك في المحطة الصواب إلى الوجهة الصحيحة ! لماذا لأنك طرحت أسئلة عميقة عن الفعل، الأخذ بالأسباب، لأنك رفضت واقعاً أو حاولت ذلك، لأنك هاجمت وعاكست ( الله غالب ) بل أردت أن تكيفها حسب فلسفتك ( في معنى نقولها ونحن نتصبب عرقا …)
    ولأنك وضفت الثقافة الدينية القرآنية ( القدرة والاستطاعة ) …
    روحك نقدية مقاوِمة لا تستكين – شعرتُ بها – في نص أسلوبه مباشر بذكر المكان والحيثيات ، فالمدينتين أيا كانتا يمكن أن تكون أي مدينتين غيرهما ما دمنا في هذه  » البقعة  » و القطار و الأوساخ وعقلية شعب !!! ..
    لكن هل تعلم أيضا أنني وأنا أقرأ المقال شعرتُ أنك تفضحني و تقصدني لأنني في غالب الأحيان ضمن  » عقلية شعب  » وضمن  » الله غالب  » … ولعلّك أوصلتني المحطة الصواب بصراعك هذا ..
    في الأخير ، صحا ليك أن لك ملهم، وصحاليك مرتين أنك تتذكر ما يقوله و تدوّنه …
    شكرا لك بحيث لا أغمط لك حقا من الشكر

    Liked by 1 person

    1. عبد المجيد الشيخ بالحاج كتب:

      لطالما كانت تلك المعاني تجول بالخاطر ونرجو أن تكون أفعالنا صادرة على هديها..
      ولا يمكنني وصف روعة وجمال تعقيبك..
      أما عن ملهمي فأنه قد ألهمني كلماته تلك وأنا في صراعي مع كلمات هذا النص، لذا كان ملهما كعادته وجعلني أوظف ما أخبرني به هنا.. لكنني لم أوفق لجمع ما أنارني به على طول سنوات سابقة..
      وما نحن إلا أفراد من ذلك الشعب نحاول أن نمارس نقدا ذاتيا ل”عاديتنا” التي نعيشها كل يوم..
      شكرا لك من أعماق القلب ❤

      إعجاب

  3. Smail كتب:

    ماشاء الله أخي عبد المجيد بارك الله فيك وسدد خطاك أحسست بأنك وصلت إلى تلك النقطة البعيدة في نفسي والتي لم أستطع أنا شخصيا تشخيصها !
    بورك فيك وفِي من ربوك ❤️

    إعجاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s