سجن بتهمة الانسانية !.. بين القانون والأخلاق

طبيب عام، في مستشفى عمومي.. كان يستقبل الحالات الاستعجالية الواحدة تلو الأخرى، وكان حريصا على أن يقدم أفضل ما لديه، خدمةً للإنسانية، وإرضاءً للضمير الذي بداخله، حيث لا يلبث يذكره بمهمته ودوره الشريف والنبيل في الحفاظ على أرواح الناس، وفي التخفيف عن آلامهم التي تجعل الشخص ينهار أمام قساوتها.. دخلت فجأة امرأة حامل، وكانت تنزف بشكل كبير جدا.. كان أمام أول اختباري أخلاقي قانوني.. مثل هذه الحالات لا يحق أن يتدخل فيها إلا طبيب نساء متخصص.. فاختار بوابة القانون هذه المرة، وبحثا عن أقرب طبيب متخصص في أمراض النساء، كان أقرب مستشفى عمومي يجده فيه يبعد عنه حوالي 100 كلم، وكانت الحامل قطعا ستموت نزيفا داخل سيارة الإسعاف.. وكانت أقرب عيادة خاصة إليه تبعد بحوالي 3 كيلومترات.. فوجد نفسه أمام اختبار ثانٍ بين القانون والأخلاق ومعاني الإنسانية.. اختار الإنسانية والأخلاق سعيا للحفاظ على حياة المرأة الحامل، وأملا في احتمالية أكبر للبقاء على قيد الحياة.. توجهت الحامل للعيادة الخاصة، رغم عدة نداءات للتبرع بالدم، لم تجد المرأة ما يكفيها من الدم ليُبقيها على قيد الحياة، فوافتها المنية هناك.. انطلق أهل الحامل نحو القضاء، ورفعوا قضية ضد الطبيب العام بتهمة “التوجيه نحو عيادة خاصة”، وهو الأمر الممنوع قانونيا، فالطبيب في المستشفى الحكومي لا يوجه المرضى إلا إلى مستشفًى حكوميٍّ آخر.. كانت المحاكمة، وكان الحكم الحبس عاما نافذا بحق الطبيب العام..

انصدمت وأنا أقرأ تفاصيل القصة، كما انصدم لذلك كل من قرأها.. أيعقل أن يُسجن الطبيب فقط لأنه حاول أن يفكر في حياة المريضة وفي أكبر الاحتماليات وأضمنها للبقاء على قيد الحياة؟ واختار الأقرب للأخلاق والإنسانية والمنطق؟.. اختار الخيار الأقرب لصوت الضمير الذي بداخله! .. حاولت أن أركّز قليلا لعلي أفهم مكمن المشكلة، ومكان الخطأ في كل هذا !..

تذكرت حلقة من حلقات برنامج “الدحيح” والتي تطرق فيها إلى معضلة القطار.. تلك المعضلة الفكرية التي حيرت الكثير من الفلاسفة وتفرقوا واختلفوا في آرائهم حولها.. سأوردها بشكل مختصر.. وأنت تسوق قطارا وجدت نفسك فجأة أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن تدهس خمسة أشخاص أمامك مباشرة أو تنحرف فتدهس شخصا بريئا كان واقفا على الجانب، فماذا ستختار؟.. ماذا لو كنت تتفرج من جسر فوق سكة القطار وكنت شاهدا على تلك اللحظات وكان جنبك شخص يمكنك أن تدفع به مِن على الجسر حتى تمنع القطار من دهس خمسة أشخاص، ماذا ستختار؟.. هل سيكون اختيارك هذه المرة مثل المرة الأولى أم سيختلف؟.. خمسة أشخاص أم واحد فقط؟.. ماذا لو كان من بين هؤلاء الأشخاص أحد من أقربائك أو أحبائك؟ كيف سيؤثر هذا على قرارك؟.. كل هذا سيأخذنا إلى نقاش أعمق، حول من له الأهمية الأكبر؟ الفعل نفسه، ومقياس إن كان فعلا أخلاقيا أم لا (القتل، السرقة، الكذب..الخ).. أم أن نتائج الفعل هي الفيصل في الأمر، فإن كان الكذب يجلب مصلحة ما فهل نقبله؟.. فكرت في الأمر قليلا فأدركت أن معضلة القطار تختلف عن موضوعنا، فهي قضية أخلاقية في كل خياراتها المتاحة.. والأمر الوحيد الذي يجعل مشكلة القطار تشكل معضلة حقيقية هي ضمائرنا وأخلاقنا.. لكن حادثة الطبيب مختلفة نوعا ما..

رغم أنهما يشتركان في وجود خياران أحلاهما مر، فدهس خمسة أشخاص أو دهس شخص واحد، يعتبر قتلا في كل الأحوال.. وإرسال المريضة نحو المستشفى العمومي سيسبب وفاتها، وإرسالها إلى العيادة الخاصة سيجعل الطبيب في موقف مخالف للقانون.. رغم أنهما بهذه الحالة، إلا أن الأولى معضلة أخلاقية بحتة، لكن الثانية صراع بين القانون والأخلاق..

انطلقت بحثا مرة الأخرى في العلاقة بين القانون والأخلاق.. في ما يربط بينهما وما يجعلهما يختلفان.. بداية فإن الهدف من الأخلاق عامة هو تزكية الفرد والارتقاء به نحو نوع من الكمال والمثالية.. أما القانون فهدفه تنظيم الناس في اجتماعهم وعلاقاتهم وتفاعلهم.. أما عن المساحات التي يتواجد فيها كل منهما، فإن الأخلاق تحكم على تصرفات الشخص وسلوكه بينه وبين نفسه، وسلوكه وعلاقاته مع الآخرين، أما القانون فهو يختص بالجماعات فقط، فهو لا يحاسب شخصا على الكذب الذي لا يضر بالمجتمع (رغم أن الكذب سلوك منافٍ للأخلاق تماما) لكنه سيحاسبه على شهادة الزور، لِما لهذه الأخيرة من أثر سلبي على المجتمع..

حسب هذه النظرة، وحسب ما اطلعت عليه، فإن هنالك مساحة تحكم فيها الأخلاق لوحدها بعيدا عن القانون، وهي المساحة الشخصية.. ومساحة أخرى يجتمع فيها القانون والأخلاق، وهي الموضع الذي يهتم بالمجتمع ومخالفة نظمه.. وهناك منطقة أخيرة يجد فيها القانون نفسه وحيدا، حيث لا تفرض الأخلاق السير من جهة اليمين ونحن نقود سيارتنا، لكنه القانون يفعل هذا..

بدأت أتساءل، وأين تلك المنطقة التي يخالف فيها القانون الأخلاق؟ وهل يتماشيان دائما جنبا إلى جنب؟.. نظرية الدولة والقانون وجدت لإرساء نظم لتنظيم الجماعات، والقوانين توضع غالبا في خط مواز مع الأخلاق.. لكن القوانين كانت لابد أن تحمل بعض الاستثناءات، خصوصا في مجال حساس جدا كمجال الطب، حيث يوجد ما يسمى بالاستعجالات والحالات الطارئة، حيث يظهر في بعض حالاتها تناقضا صارخا بين الإنسانية والقانون الذي وُضع أساسا للحالات العادية العامة..

إلى أن تصير القوانين والأحكام القضائية في بلادنا أقرب إلى الإنسانية، وأقرب إلى الطبيب والمريض على السواء.. يجب على الطبيب أن يعمل بالقانون دائما وأبدا.. وليحاول نسيان ما يسمى بمصلحة المريض أو مصلحة عائلة المريض.. أولئك الذين يستغلون أدنى كبوة قانونية يتشبثون بها علهم يحصلون على تعويضات ما.. إلى ذلكم الحين، لينس الأطباء ما يسمى بالإنسانية والطيبة والرحمة فهي ممنوعات عليه أن يتخلى عنها قبل أن يجد نفسه مسجونا أو مغروما بمبلغ مالي.. إلى ذلكم الحين، فليحرص الأطباء على توخي الحذر والعمل بالقانون مهما كلفهم الأمر .. أو الهجرة، ما استطاعوا إليهما سبيلا..

رحم الله الفقيدة، وفك أسر الطبيب المعتقل..
ويبقى السؤال المطروح.. وماذا إن عارضت الانسانيةُ القانونَ؟

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s