عيد في ميزاب ❤ (2): أَسْ نْ تَعشيرْتْ

بعد اليوم الأول الذي تُستَهَل بشائره وأنواره وجمال روحانيته بالتسبيحات التي تنطلق من مكبرات صوت المساجد في المدينة في وقت مبكر جدا، إلى صلاة العيد بجميع المظاهر التي وصفتها في مقالي السابق، إلى زيارة الأقارب في عيد الفطر، أو ذبح الأضاحي في عيد الأضحى.. بعد أن ينقضي ويسدل الليل ستائره على ذلك اليوم، تطلع شمس يوم جديد، شمس ثاني أيام العيد، ذلك اليوم الذي يدعى في بلدتي بِـ” أَسْ نْ تِعْشِيرِنْ ” (أو يوم العشائر)..

تعتبر “تعشيرت” أو العشيرة إحدى مستويات التنظيمي الهيكلي للمجتمع الميزابي.. تنتسب إلى كل عشيرة مجموعة من العائلات، يجمعهم جد واحد في الغالب.. الحديث عن العشائر قد يذكرنا بالأنظمة القبلية وما يرتبط بها من معاني العصبية وما يرتبط بالبدوية، لكن المجتمع الميزابي يسعى إلى جعلها أداة تنظيم وتقسيم للمسؤوليات أكثر من كونها أداة تمييز أو تقسيم داخل المجتمع الواحد.. قد تكون لهذه الهيئة الكثير من المسؤوليات كمتابعة أبنائها دراسيا، تنظيم حفلات الأعراس، المساهمة في حل النزاعات التي قد تكون داخل العائلات وأمور أخرى..

“أس ن تعشيرت” قد يكون بمثابة اجتماع ثقافي فكري ومنبر لعرض مختلف الآراء والأفكار.. يتوجه أبناء العشيرة من كل الأعمار إلى عشيرتهم في بداية اليوم.. ليستمر اللقاء إلى حدود صلاة الظهر.. قد تعرض في اللقاء إحصائيات حول التعليم ونتائج الطلبة، كلمات من المشائخ في مواضيع دينية أو اجتماعية مختلفة، كلمات من دكاترة في مواضيع فكرية أو قضايا مستجدة.. وقد يتخلل كل ذلك أناشيد أو عروض مسرحية كوسيلة لإيصال رسالة ما، أو استثارة إشكالية محددة.. وقد تضاف إلى البرنامج تكريمات أو جوائز للطلبة أو المتخرجين من أبناء العشيرة في مختلف المستويات والتخصصات والجامعات.. ويصاحب ذلك بيع مجموعة من عناوين الكتب الجديدة (المحددة من المسجد غالبا) خصوصا في المجال التاريخي، الإجتماعي، والشرعي..

حسب الشيخ بكير بن محمد الشيخ بالحاج (باشعادل) رئيس حلقة العزابة بمدينة القرارة، فإن اجتماع العشائر “أس ن تعشيرت” لم يكن قديما جدا، فقد كانت أولى مبادرات هذا الإجتماع في حدود سنة 1956.. إلى أن أصبح اليوم أمرا ثابتا في عقلية الفرد القراري.. ومناسبة قارة أثبتت نفسها في صباح اليوم الثاني من كل عيد (سواء عيد الفطر أو الأضحى)..

رغم أن تجمعا فكريا كهذا كان يفترض به أن يكون منبرا مفتوحا لكل الأفكار والتيارات، ومكانا لتلاقح المعاني، وفرصة للسماع والإنصات للآخر، ما لم يُختلف في الثوابت الكبرى، لكنه لا زال منبرا يعاني من بعض التقييدات من جهات وأشخاص من حين لآخر، فرضا للآراء، وتقييدا وتحديدا للمسموح من الأفكار والمواضيع الجائز طرحها..

المجالس العائلية اجتماعات بين شباب العائلات تكون بين أمسية اليوم الأول أو الثاني أو ما بعد ذلك.. يوحدهم اسم العائلة، وتجمعهم صفة القرابة، قد يكون أشبه باجتماع العشائر لكنه بدائرة أضيق، وأقرب للفرد.. يحاول الحاضرون خلاله أيضا التطرق لمختلف المواضيع المتعلقة بالعائلة خصوصا وبالمجتمع عموما، ولكل ما يهم مختلف فئات العائلة من الأطفال إلى الشباب إلى العمال والكبار..

ويسمى اليوم الثالث من العيد بيوم “المعايدة”، وهي مناسبة محدودة خاصة بالمثقفين، حيث يجتمع المحسوبون على الطبقة المثقفة والمشائخ والدكاترة من مختلف قرى وادي ميزاب بمدينة القرارة لتبادل المعايدات، وطرح مختلف الأفكار وتبادلها، ومناقشة بعض المستجدات على مستوى الساحة الإجتماعية والثقافية والسياسية خصوصا..

هكذا هي أجواء وفعاليات العيد بالقرارة.. الكثير من الفرحة، والكثير من الجمال.. وابتسامات وقلوب نقية تجتمع لتعيش تلك اللحظات التي تعيد للروح روحها..

إلى أن تفتح منابر العشائر أكثر، وتستغل مناسبات الأعياد لعرض الأفكار ومناقشتها بمختلف زواياها وأشكالها بشكل أوسع، في ميدان أرحب للفكر، أتمنى كل الخير للقرارة ولكل قرى وادينا العزيز..


حقوق صورة المقال محفوظة للمصور الفوتوغرافي Abdelaziz Ben Salah
الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s