أرى القطةَ الصغيرة بنتَ الأشهر القليلة التي لم تر الشارع قَطُّ في حياتها، تقف عند الباب تراقب الخارج وتستطلعه بدافع فضولٍ داخلي، لا تلبث أن تعود مسرعة نحو الداخل إذا ما سمعت صوتا غريبا من الخارج (صوت دراجة نارية أو أي جلبة) أو من الداخل لأحد يلحق بها أو يناديها.. ملاذها الوحيد هو داخل المنزل في كل الأحوال، لم تتجرأ على تخطي عتبة المنزل لحد الآن إلاّ من خلال ملاحظة متوجسة حذِرة من بعيد..
وأنا أراها أتذكر فيلم Room الذي يعرض قصة طفلة حُبست في غيابات غرفةٍ في أحد الجنان مذ كانت بنتا للسادسة عشر، إلى أن أنجبت ولدها هناك، ذاك الذي لم يرَ الحياة في الخارج قط إلا من خلال ما تخبره به أمه، أو ما يراه في شاشة التلفاز الصغيرة.. كان يعتقد أن لا وجود في الحياة إلا لأمه وذاك الشخص الذي يزورهم في كل ليلة.. وكان قد بدأ يطلق تساؤلاته، وفضوله يزداد شيئا فشيئا مع مرور سنواته.. شعر بالصدمة عندما علم أن الأشخاص الذين يراهم على شاشته أشخاص حقيقيون، وأن هنالك في الخارج حيوانات ونباتات وأشجار وأناس آخرون وشمس وقمر وما إلى ذلك.. اعتبر الأمر أقرب لخرافات تخبره بها أمه.. لم يصدّق الأمر حقا إلا عندما طبّق خطة الهروب التي خططتها أمه لتنجيهم من جحيم السنوات التي قضوها هناك، ولم يكن للأم أمل في الخروج منها إلا في ابنها..
وبعد القطة وطفل الغرفة، أعود لأتساءل: هل يمكن أن تكون كل الحياة التي أحياها وأعيشها مجرد سعي داخل منطقة مألوفة جدا؟ كل الأسفار والأشخاص الذين أعرفهم مجرد محيط مألوف جدا، وما سواه يعد ضربا من الخيال؟.. كل الأفكار والمعاني التي أؤمن بها، استمعت لها، التقيت بها، مجرد كومة صغيرة محدودة من المنطق الخاص، وما سواه اللامنطق واللامعقول حتى بدون تمحيصه؟ هل أعيش حالة الترقب التي تقفها القطة وراء الباب، بدل أن أحاول تخطي الحدود بحذر غير مبالغ فيه، أو حالة طفل الغرفة الذي يستكشف الشمس وأوراق الشجر من خلال نافذة السقف المربعة ! هل عشت كل السنوات الماضية من حياتي – التي بدأت تتراكم بالفعل – داخل قفص مغلق كبير مترامي الأطراف حتى خفت عن أنظاري حقيقته !..
دراستك، أوراقك وكتبك، أفكارك، أهلك، تليفزيونك وبرامجك المفضلة، هاتفك، حاسوبك، حسابك على الفيس تويتر أنستڨرام وكل المواقع الأخرى اللامتناهية، هل يعقل أن تكون أثاثا داخل ذلك الصندوق؟ أم أنها الصندوق نفسه؟..
حاول أن تفكّر في الأمر قليلا، فهو يستحق..
جرّب أمرا جديدا، إقرأ لمخالفيك قبل القراءة عنهم..
سافر لمكان جديد.. تحدث لأشخاص غرباء، فكل إنسانٍ تجربةُ حياةٍ كاملة متكاملة ومنظومةُ أفكارٍ خاصة..
إفعل ذلك وأكثر، فحياة داخل الغرفةِ مملةٌ بشكل لا يوصف..
أعلم أنها تبعث على الراحة، لكنك تملك حياة واحدة، وتستحق أن تعيشها بشكل أفضل، وتستكشف جوانبها وأسرارها بشكل أوسع..