– يقوم بحركات متقنة جدا.. بيد أنه يحضر نفسه لهجوم على أطباق الطعام المرتبة أمام ناظريه..
– أتعلم صديقي ! قرأت شيئا عجيبا صباح اليوم، أريد أن أخبرك عنه قليلا..
– أرجوا ألا يكون من الفلسفة المملة، ولا من الفيزياء اللعينة..
– لا هذه ولا تلك.. فهو من جمال الطب، وعجائب أجسامنا..
– مممم.. تفضل.. أرجوا أن تبسط، فعمليات التفكير والتمحيص في عقلي تكون في أدنى درجاتها، وأنا أمام الأطباق..
– حسنا.. أتعلم، عندما ظهر الإنسان على هذه الأرض، كانت البيكتيريا موجودة هنا بالفعل قبل 3 مليارات سنة.. وقد ساهمت في تطور الإنسان إلى شكله الحالي..
– وما دخلي بالبكتيريا صديقي، ليست أكثر من كائنات كئيبة وحيدة، وعدائية بشكل كبير، أنا لا أحبها أساسا..
– أرجوا ألا تقاطعني مجددا.. دعني أشرح لك الأمر.. وأظن أنك ستغير رأيك تجاهها تماما بعد حديثي هذا..
هناك عدد خيالي من البكتيريا في أجسامنا، نعيش معه، ويعيش معنا.. في أفواهنا، أمعائنا، على جلودنا، وفي جهازنا التنفسي وفي مسالكنا البولية أيضا..
تزن كل البكتيريا المتواجدة في جهازنا الهضمي حوالي 2 كلغ، أثقل من مُخّنا، ويبلغ عددها 10 مرات عدد خلايا أجسامنا .. لذا فيمكننا اعتبارها عضوا جديدا من أعضاء جسمنا.. يسمى ب”microbiote “..
بِعدِّ الخلايا التي نتكون بها بالنسبة لعدد البكتيريا التي نحملها، فنحن نتشكل من 90٪ من البكتيريا..
المادة الوراثية لهاته البيكتيريا يتكون من 600.000 من الجينات، بمقابل 23.000 من الجينات التي يحملها ADN عندنا..
أمر عجيب صح؟ أتساءل حقا، هل نحن مجموعة خلايا إنسان؟ أم أننا كتلة بيكتريا محاطة بالقليل من الخلايا !..
– في الحقيقة لا يهمني ذلك، ما زلت قادرا على أكل المزيد، وذلك ما يهمّني حقا !..
– يا إلاهي، يبدوا أن علاقتك بالأكل علاقة وجودية.. صديقي ركّز قليلا..
البكتيريا التي نحملها تقوم بدور عظيم جدا، فهي تعمل كحاجز يحمي جدار أمعائنا من البكتيريا الضارة.. وتقوم بهضم بعض الأغذية التي لا نستطيع هضمها إلا بوجودها.. لها دور في نضج جهازنا الهضمي والمناعي أيضا..
العجيب، خلايانا -وكما نعلم- فهي تتشكل جينيا من آبائنا وأمهاتنا.. لكن البكتيريا التي نحملها، فمصدرها أمهاتنا فقط..
– آه.. وهل هذه نقطة إضافية للذكر أم للأنثى في مواجهتهم الأزليّة فيما بينهما؟ يبدوا أنها للذكر..
– صديقي يبدوا أنك تحب المنافسات والمسابقات كثيرا..
أظنها نقطة إجابية للأنثى، لأن هذه البكتيريا أساسية جدا، وأي تغيير فيها بأي عامل من العوامل، يعني تحولنا إلى حالة مَرَضيّة.. ويكون ذلك بالتناول الكثيف وغير المدروس للمضادات الحيوية، أو بالولادة بالعملية القيصرية بدل الولادة الطبيعية التي تكسبنا بكتيريا من جدار عنق الرحم ويكون بأسباب أخرى أيضا..
وهذا العضو (microbiote) يختلف من شخص لآخر، تماما مثل البصمة الوراثية..
وتغير مكوناته قد يؤدي إلى اضطرابات سلوكية، فهو يؤثر على عمل المخ بوسائط كيميائية، وله علاقة بأمراض السمنة، السكري، والتوحد.. فالتجارب المخبرية بخصوص هذا الشأن كثيفة جدا، وتكشف عن الكثير يوما بعد يوم..
– (بعد أن أخذ آخر ملاعق الطعام).. بما أنها تختلف تماما من شخص لآخر، وبما أنها تؤثر مباشرة على عمل المخ، هل يمكنها أن تؤثر على شخصية الإنسان التي يدرسها علماء النفس؟
– أحيانا تبهرني بأسئلتك القوية، لا أعلم إن كان للأمر علاقة بطريقة أكلك أم لا، لكنني أعتقد أن الأمر يعود إلى عضو الميكروبيوت الخاص بك..
في الحقيقة لا أعلم، المختبرات تخبرنا بتغير سلوكيات الفئران عندما يتم تغيير أنواع البكتيريا التي تحملها.. من هادئة إلى أخرى مفرطة الحركة والعكس.. وبالنسبة للسمنة، فإنها ترينا تغير الفئران من الحالة العادية إلى فئران سمينة بسبب حصولها على بكتيريا من أمعاء فئران سمينة موجودة من قبل.. والعلماء يراقبون بشكل متواصل سلوكيات مرضى التوحد الغذائية، للإجابة على مثل تساؤلك وتساؤلات أخرى..
تساؤلات حول نجاعة التداوي بنقل المادة البرازية (la matière fécale) وقد تم تجريبه على الإنسان بالفعل في مستشفيات عديدة.. حول تأثير الإكتشافات والمعلومات التي توصلوا إليها على نظرتنا السابقة لأمراض السمنة والسكري والتوحد وحتى الالتهابات المزمنة للجهاز الهضمي (syndrome de Crohn).. وقد يقودنا إلى فهم أوسع لها وبالتالي محاربة أنجع ضد هذه الأمراض..
– (وهو يمسح يديه وفمه بقطعة قماش).. شكرا لك صديقي، تحصلت على جرعة كافية من الطعام والغذاء العقلي في آن واحد.. أعتقد أن سمنتي وأكلي الكثير إنما بسبب الميكروبيوت الذي أحمله، يبدوا أنه يمتلك شراهة غير محدودة.. وأعتذر لأني لم أدعُك لمرافقتي أثناء الأكل..
– لا عليك، لم يكن بإمكاني التحدث كل هذا القدر دون أن آخذ وجبة دسمة قبل أن آتي إليك.. أظن أنني ثرثرت كثيرا هذه الليلة، أحييك على صبرك على كلامي الطويل.. أنت من النوع النادر.. طابت ليلتك صديقي ^^