قساوة الحياة.. وحلم داخل قسم من “مدرسة الحياة”..

حَدَّثَنِي على الخاص، سعدت جدا أنه من بلدتي وقد ولج عالم الطب هذه السنة، ارتفعت معنوياتي جدا بعد أن اعتقدت – من قبل – بعدم وجود أي طالب جديد في الطب من بلدتي.. في نفس اللحظة حدثني أحدهم من جهة أخرى، تبين لي من لغته أنه لم يكمل دراساته أو أنه مزال في مستوياته الأولى من الدراسة.. حدثني وهو يلعن المدرسة وكل مسؤوليها الذين طردوه وأخبروه أنه لا أمل في مدرسة أخرى، لن يقبلك أحد، والتكوين المهني أفضل وجهة لك..

هناك توقفت حائرا، يا لهذه الحياة، ويا لمفارقاتها، بين من ينتقل من نجاح لآخر عبر السنوات، ليتوّجها بتخصص جامعي يتمناه، وبين من تلقي له بالمطبات والعقبات في مساره، فتكثر الجروح وتتوسع وهو لا يزال في بدايات طريقه..

هناك تذكرت قصة لطالما أحببت أن أرويها، لشخص جمعتني به الحياة في إحدى أقسام “مدرسة الحياة”.. كان لقاؤنا مثل تقاطع لتتابع أحداث روايتين مختلفتين تماما.. تقاطع دام سنة كاملة..

هناك في إحدى الطاولات الخلفية.. رغم أني كنت من المجتهدين، ولا أدري ما الذي جعلني أجلس هناك في الخلفية.. هناك تحدثنا طويلا وتناقشنا عن المستقبل.. عن المستقبل الذي لم نكن نتوقع أنه سيخالف كل ما خططنا له في تلك الجلسة.. عن المستقبل الذي يبدوا أنه تعمّد أن يسلك سبيلا مختلفا عن الذي أردنا..

تحدثنا عن أفضل المهن والنشاطات التجارية التي تدرّ مالا وفيرًا.. ربما كان هذا الموضوع لأننا “ميزابيون” ولأن شيئا جينيا يربط الميزابيين بعالم التجارة.. تناقشنا حول الموضوع أكثر من مرة، ولأنها كانت بداية سنة جديدة فقد ساهمت أحاديثنا المتكررة في تعتيم صورتي لدى أستاذي الجديد الذي كان قد توقع -اعتمادا على نتائجي السابقة- طالبا مجتهدا مهذّبا، مكتّف الأيدي، جالسا في الطاولة الأولى، صامتا أغلب الأوقت.. لكنني خالفت كل توقعاته.. وتحصلت على بعض الضربات والعقوبات منه على ما أتذكّر !..

لم تكن لدي أي فكرة حينها حول موضوع النشاطات التجارية.. ذكر صديقي أن مجال المرايا والزجاج مجال نشط جدا.. ويعتبر تجارة مهمة.. لا أدري من الذي أخبره بهذا.. لكن أتذكر أنه أخبرني بعد ذلك أن والده قد وافقه رأيه بخصوص مجال المرايا والزجاج.. (وأنتم تجيبون على أسئلة أبناءكم انتبهوا.. فأنتم ربما تساهمون في اتخاذ قرارات ما هناك بدواخلهم)..

أغلب الظن أننا تحدثنا عن الخسائر المحتملة في هذا المجال.. حول اعتماد المجال على مادة قابلة للانكسار وارتفاع احتمال الخسارة فيه.. لكنه طمأنني كخبير قديم في المجال.. ونتيجة لكل ما ناقشناه، ولأننا ما زلنا لم نجتز سنتنا الرابعة من تعليمنا الإبتدائي، اتفقنا أن نكون شركاء في نشاط في هذا المجال عندما ننهي دراساتنا..
اتفقنا.. أتذكّر أننا فعلنا ذلك..
————————
بعد سنوات، هناك في غرفة من غرف الإقامات، بين الكتب وأوراق المحاضرات، ومختلف “البوليكوبات”..
– عبد المجيد، تعال..
– ماذا هناك؟..
– (ممسكا هاتفه، يريني منشورا على الفيس) انظر لهذه الصورة، تعرف هذا الشخص؟..
– يا حسراه على الأيام، طبعًا أعرفه.. ما زلت أتذكر ذلك الحلم المشترك الذي جمعنا.. ولم تُكتَب له الأقدار كي يتحقق.. مهلا ! لكن ما به !!.. خيرا إن شاء الله!..
– إقرأ المنشور لتعلم ذلك..
– بحث في فائدة العائلات ! فلان بن فلان مفقود منذ أيام ببلدية ****** بالعاصمة، يلبس قميصا أزرق وسروال “Jeans” منذ آخر خروج له من المنزل.. يعاني من اضطرابات، ومصاب بمرض عقلي -عافاكم الله- هذه صورته، ومن لديه أي معلومات فليتصل بالرقم المصاحب للصورة..

وقفت مدهوشا ! كأن الزمن قد توقف.. حتى عقارب الساعة أصابتها الدهشة حينها، فأصبحت تسير بتأن كأنها تريد استيعاب ما يحدث.. بقيت عيناي مسمرتان على الهاتف، تريد أن تتأكد.. أو ربما تبحث عن أي علامة تنفي بها أن الشخص الماثل بصورته أمامي هو ذلك الشخص الذي أعرفه.. ربما يشبهه..
لا مشابهة هنا.. هو مذكور باسمه الكامل هنا !!..

حاولت أن أبتلع الغصة التي تشكلت في حلقي.. هذه الحياة لا تتوقف عن جعلي أواجه مفارقاتها وعجائبها.. أشخاص يعيشون، يدرسون، يجدون ويعملون فتعتلي أسماؤهم قوائم الناجحين، سنة وراء سنة.. يحققون مرادهم وأمانيهم.. يعيشون أجمل أيام حياتهم.. ويسعدون.. يدرسون، وهم يحملون تشريف وتكليف الطبيب على كاهلهم..
وآخرون ترميهم هناك على الهامش.. كأن كل المصائب قد اتفقت عليهم.. تصعب حياتهم شيئا فشيئا.. خروج من الدراسة، مشاكل عائلية وأخرى صحية.. قاسية جدا.. حياة لا ترحم.. لا أحد ينظر إليهم، لأنهم لا يعبّرون في الغالب.. فكتب التنمية غالبا ما يؤلفها السعداء، وكتب الإقتصاد غالبا ما يؤلفها الأغنياء ورجال الأعمال..

أما هم، فهم البؤساء الذين يتكفل النسيان بهم..


حمدا لله على ما كان وما سيكون.. اللهم إنا نسألك الصحة ودوام العافية، وتوفيقا يصاحبنا طيلة السنوات.. لتحقيق آمالنا وأحلامنا..

الإعلان

3 Comments اضافة لك

  1. Wafa Gouri كتب:

    حين أمعن النظر إلى هذه المفارقات تخطر ببالي صور أو أسماء شخصيات رسمت التحدي و تجاوزت العقبات رغما عنها
    و هنا أطرح سؤالا هل بالضرورة أن أكون ضحية هذه الحياة؟! لا أعتقد ذلك مادام هناك مايسمى بتكييف الظروف.. لا أدري ، ربما هناك مالا نستطيع تعديله، لكن إيمان داخلي قوي يخبرنا أن لا للاستسلام مادمنا نسير في هذه الأرض..
    ما أردت قوله أن علينا بالسعي 👈
    ( ربما هي أفكار متفرقة لا تخدم الموضوع المطروح بدقة لكن كلمة ” حياة لا ترحم” استفزتني جدا)

    إعجاب

    1. نعم.. من وقت كتابتي للمقال لليوم تغيرت نظرتي للأمر.. تمنيت أكثر من مرة أن أكتب مقالا حول هذا الموضوع.. قد يكون عبارة عن إضافة أو رد أو أي شيء.. أرجو أن أفعل قريبا..

      إعجاب

      1. Wafa Gouri كتب:

        بالتوفيق

        إعجاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s